تحدثنا في المقال السابق عن أهمية القلب في علاقتنا بالله عز وجل، وأنه محل نظر الرب تبارك وتعالى، ثم ذكرنا أهمية حراسة القلب وتثبيته على الدين، وذكرنا لذلك بعض الوسائل.
نواصل في مقالنا هذا الحديث عن وسائل حراسة القلب في زمن الفتن والشهوات والشبهات.
1- إدمان الفكر في الآخرة وما أعد فيها من الثواب الجزيل لمن خالفوا شهواتهم ولم يتبعوا أهواءهم وخافوا مقام ربهم تعالى، واستحضروا عظمته وأسماءه وصفاته، وأنه مطلع عليهم محيط بهم، فلم يكونوا حيث يكره، ولم يفقدوا حيث يحب تبارك وتعالى، وما أعد فيها من العذاب والنكال لمن كان على الضد من ذلك فاتبع هواه وكان أمره فرطاً، واستجاب لداعي شهواته، ولم يتأهب لذلك الموقف العصيب والهول الشديد.
2- ومما يعين على حراسة القلب التفكر الدائم في تبعات اتباع الهوى والشهوات، وأن ذلك يفضي بصاحبه إلى المهلكات، فضلاً عن قلة حظه من الالتذاذ بتلك الشهوات، كما عبر عن ذلك ابن الجوزي فقال: وليعلم العاقل أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذونها وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها؛ لأنها قد صارت عندهم كالعيش الاضطراري، ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ بذلك عشر التذاذ من لم يدمن، غير أن العادة تقتضيه ذلك، فيلقي نفسه في المهالك لنيل ما يقتضيه تعوده، ولو زال رين الهوى عن بصر بصيرته لرأى أنه قد شقي من حيث قدر السعادة، واغتم من حيث ظن الفرح، وألم من حيث أراد اللذة، فهو كالحيوان المخدوع بحب الفخ لا هو نال ما خدع به ولا أطاق التخلص مما وقع فيه. انتهى.
3- قيام الليل: هو دواء ناجع لمن يبحث عن الدواء لقلبه، وهو المعين للعبد على مواجهة الدنيا بفتنها بالنهار؛ ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ (الإسراء: 79).
وهو من أفضل الوسائل التي تدفع للعمل وترفع الهمة، إنه دواء لذيذ لا بد لكل باحث عن حراسة قلبه أن يتجرعه بشكل دائم، بشرط أن يتناوله كما أمره الله فلا يبحث عن عدد ولا كم الركعات التي يرضي بها نفسه؛ وإنما يبحث عن الكيف حتى تؤتي ثمارها فيعايش القرآن في القيام، ويتدبره ويتجاوب معه، ويناجي مولاه في السجود ويبث شوقه بين يديه ويستذل ويتضرع ويطلب من ربه أن ينظر إليه فيرحمه ويهديه ويحفظ عليه قلبه.
4- ذكر الله: وهو من أعظم أسباب ووسائل الحفاظ على القلب وحراسته وتثبيته على الإيمان؛ تأمل في هذا الاقتران بين الأمرين في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} (الأنفال: 45)، فجعله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد بالرغم من قلة عدد وعدة الذاكرين الله كثيراً، وبماذا استعان يوسف عليه السلام في الثبات أمام فتنة المرأة ذات المنصب والجمال لما دعته إلى نفسها؟ ألم يدخل في حصن (معاذ الله) فتكسرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه؟ وكذا تكون فاعلية الأذكار في تثبيت المؤمنين.
5- ومما يعين على ذلك مجاهدة للنفس وحملها على طاعة الله ومراغمتها حتى تتأدب بأدب الشرع ولا تطمح إلى ما يسخط الرب، والله قد وعد من جاهد نفسه بالمعونة وهداية السبيل وهو تعالى لا يخلف الميعاد، وفي الحديث: «أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله» (أخرجه الديلمي وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة).
6- الاستعانة بالله تعالى والتوكل عليه والاجتهاد في دعائه والإنابة إليه، فإن القلوب بين أصبعين من أصابعه تعالى يقلبها كيف يشاء، فإن لم يتفضل على العبد بالمعونة على دفع هواه وتعديل شهواته لم يكن له على ذلك قدرة، وقد قال عز وجل: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور: 21)، فيجب على المسلم أن يكثر من الدعاء والتضرع إلى الله تعالى بأن يحفظ قلبه ويثبته على الإيمان، قال الله تعالى في القرآن الكريم: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186)، فالدعاء يعزز القوة الروحية للمسلم ويعطيه الطاقة اللازمة لمواجهة الفتن.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده.
7- البعد عن فضول الكلام: ومِنْ أَعْظَمِ المُؤَثِّرَاتْ على القَلْب فُضُولُ الكَلام، ونحن هنا لا نقصد هؤلاء الذين يسلطون ألسنتهم على الأخيار ويسبون ويلعنون ويغتابون ويكذبون ويوزعون حسناتهم على خلق الله؛ لكننا نقصد هؤلاء الذين لا يقولون إلا المباح من القول لكنهم يكثرون ويطيلون منه إلى حد غير مطلوب، فهذا مدخل عظيم لقسوة القلب وجفوته ومن أكثر من فضول الكلام حٌرم لذة العبادة وحضور قلبه واجتماعه على الله.
8- «ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه»! هذا جزء من حديث نبوي عظيم، ينبغي أن يتخذه المرء شعاراً دائماً في التعامل مع فتن الشهوات والشبهات، التي عمت وطمت في عصرنا هذا، فمشكلة الفتن هي في الخطوات الأولى، وفتح الباب المؤدي إليها، والذي من ولجه تاه وتخبط، وسقط في بئر لا قرار لها، أو بحر هائج إذا نزل فيه من لا يحسن العوم خطفته الأمواج وصار من المغرقين، ومهما تكلم المتكلمون عن وسائل النجاة منها، فتبقى الوسيلة الأنجح والأقوى هي البعد عن الفتن وأبوابها ووسائلها، والمجانبة التامة لها بكل طريق ممكن، وعدم اغترار المرء بنفسه، وألا يظن أحد قط أنه قوي على الفتنة، ومحصن من الوقوع فيها.
فهناك ضرورة للمحافظة على القلب من الهواجس والخواطر السيئة والأفكار الشيطانية وإغلاق الباب مع أول هاجس وعدم تركه حتى يتطور إلى خاطر ثم إلى حديث نفس ثم إلى همّ ثم إلى عزم ثم إلى فعل.
9- لنحرص على الساعات الأربع التي نصحنا بها نبي الله دواد عليه وسلم بقوله: «حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه عز وجل، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن هذه الساعة عون على هذه الساعات وإجمام القلوب، وحق على العاقل أن يعرف زمانه ويحفظ لسانه، ويقبل على شأنه» (الزهد لابن المبارك).
10- الثقة بالطريق رغم قلة السالكين: فإن من الفتن التي تعصف بقلب العبد في زمن الغربة فتنة الشعور بالتفرد وقلة سالكي طريق الحق، فيتلاعب أهل الأهواء بقلوب المؤمنين ويلمزونهم بأنهم غرباء عن مجتمعاتهم، ولا بد لهم أن يعودوا إلى صفوفهم ويتخلوا عن وحدتهم، فيأتي إيمان العبد بطريقه فيدفع عنه ويثبته ويستهزئ هو بهؤلاء الحمقى ويطلب لهم الهداية إلى طريقه، فلا شك أنه كلما ازدادت الثقة بالطريق الذي يسلكه المسلم، كان ثباته عليه أكبر.
11- الالتفاف حول أهل العلم الربانيين: فالبحث عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين، والالتفاف حولهم معين كبير على الثبات والحفاظ على القلب وقت الفتن الهائجة.