كنت قد رأيت من يتأولون شروط العلماء في صحيح الرقى بغير وجهه؛ فيمنعونها بغير القرآن والأذكار الواردة في السُّنة، فوقع في نفسي، أول ما وقع، عدم تصورهم لماهية الرقية، فأحببت كتابة هذه الأسطر.
صح الحديث عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنه قال: كُنَّا نَرْقِي في الجَاهِلِيَّةِ، فَقُلْنَا: يا رَسولَ اللهِ، كيفَ تَرَى في ذلكَ؟ فَقالَ: «اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لا بَأْسَ بالرُّقَى ما لَمْ يَكُنْ فيه شِرْكٌ» (صحيح مسلم 2200)، ودلالة هذا الحديث قاطعة على أن ما كان يقوله الجاهليون من رقى منه ما هو نافع للمريض رغم أنه ليس بقرآن ولا حديث، وأن الفاعل لذلك مُجازٌ بالوحي الشريف على شرط عدم احتواء رقاه على الشرك.
إن الرقية دواء مادي لداء مادي، وهي مختلفة عن الدعاء من جهة شمول الدعاء لها -إن كانت الرقية بدعاء- ولغيرها، فالدعاء في الأصل طلب الشفاء من الله عن غير سبب مادي، بخلاف الرقية التي هي سبب مادي للشفاء، وكمثل ما يصنع الأطباء في الدواء بالعقاقير من تجربته على الجسد حتى يتأكدوا من نزوله موضع الداء فيكون سببًا في الشفاء؛ فكذلك الرقية، فكان أهل الجاهلية وغيرهم يرقون بكلام يناسب حال المريض فيؤثر فيه، ثم يتوارثون حكاية نفع تلك التجربة وما قيل في رقية كل مرض كسائر ما يُدون في كتب الطب من عقاقير كل منها مناسب لأحد الأمراض، فتأثير الكلمات على الجسد تأثيرًا ماديًا حقيقةٌ معلومة متواترة محسوسة.
وعليه؛ فلا يصح منع الرقية بغير الكتاب والسُّنة البتّة، والعمدة في صلاحها المناسبة لحال المريض والتجربة، أما عن المناسبة؛ فكما أن من أدوية مرض السكري عقار «الإنسولين» لأنه يُخفض نسبة السكر في الدم ولا يصح أن يتعاطى المريض شيئًا يحتوي على «الستيرويدات» التي ترفع نسبة السكر في الدم؛ فكذلك الرقية، فمن يصاب بحروق، مثلًا، يُرقى بكلام يحوي معنى البرد، ومن يُصاب بانخفاض في ضغط الدم يُرقى بكلام فيه معنى الإحياء والنشاط، ومن تعسرت ولادتها تُرقى بما يحوي معنى الانفراج، ولمن ينزف يُرقى بما يحوي معنى الجفاف والقضاء.. وهكذا، وأما عن التجربة فإن كثيرًا من الرقاة يخبرون عن نفع بعض الرُّقى المعيّنة وبكيف معين كما هو معروف.
ثم لما كان أحسن الكلام كلام الله سبحانه وتعالى ثم دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم استحب أهل العلم الرقية بذلك، ويؤيده حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: أنَّ نَاسًا مِن أَصْحَابِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كَانُوا في سَفَرٍ، فَمَرُّوا بحَيٍّ مِن أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فَلَمْ يُضِيفُوهُمْ، فَقالوا لهمْ: هلْ فِيكُمْ رَاقٍ؟ فإنَّ سَيِّدَ الحَيِّ لَدِيغٌ، أَوْ مُصَابٌ، فَقالَ رَجُلٌ منهمْ: نَعَمْ، فأتَاهُ فَرَقَاهُ بفَاتِحَةِ الكِتَابِ، فَبَرَأَ الرَّجُلُ، فَأُعْطِيَ قَطِيعًا مِن غَنَمٍ، فأبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقالَ: حتَّى أَذْكُرَ ذلكَ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فأتَى النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَذَكَرَ ذلكَ له، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، وَاللَّهِ ما رَقَيْتُ إلَّا بفَاتِحَةِ الكِتَابِ فَتَبَسَّمَ وَقالَ: «وَما أَدْرَاكَ أنَّهَا رُقْيَةٌ؟ ثُمَّ قالَ: خُذُوا منهمْ، وَاضْرِبُوا لي بسَهْمٍ معكُمْ» (رواه البخاري (2276)، ومسلم (2201))، وفي رواية: بهذا الإسْنَادِ قالَ في الحَديثِ: فَجَعَلَ يَقْرَأُ أُمَّ القُرْآنِ، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفِلُ فَبَرَأَ الرَّجُلُ، وأمثال هذا في السُّنة كثير كرقية جبريل عليه السلام النبيَّ صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ؟»، فَقَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: «بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ، اللهُ يَشْفِيكَ بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ» (رواه مسلم 2186)، ومثله كثير لا نطيل بذكره.
وما سبق في بيان المناسبة والتجربة يجب أن يراعى في الرقية بالوحي الشريف، فيناسب رقية المصاب بحروق قوله تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء: 69)، ويناسب من أصيب بانخفاض ضغط الدم قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة: 164)، ويناسب من تعسرت ولادتها قوله تعالى: (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) (الطلاق: 2)، ولمن نزف قوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ) (هود: 44)، ولعل أمر التجربة في ذلك استئناسية حال النفع فحسب، فلا يُجرب كلام الله ولا يُقال: إنه غير نافع -تعالى الله علوًا كبيرًا- والخطأ في ذلك يكون من قبل الراقي لا من ذات الكلام.
بقيت نقطة مستفادة من حديث النبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «يدخلُ مِن أمَّتي الجنَّةَ سبعونَ ألفًا بغيرِ حسابٍ همُ الَّذينَ لاَ يسترقونَ ولاَ يكتَوونَ، ولا يَتطيَّرونَ وعلى ربِّهم يتوَكَّلونَ» (رواه البخاري (5705)، ومسلم (220))، وهي أن من تمام التوكل على الله عدم طلب الرقية من البشر للمناسبة بين ذكرهما معًا، وهذا بخلاف فعل الرقية نفسها، وفيه دلالة على أمرين:
الأول: عدم منافاة رقية الإنسان نفسه للتوكل كما لا ينافي التوكل التداوي بالعقاقير، فلا شك أن النبي صلوات الله عليه وسلم كان أكمل الناس توكلًا ومع ذلك تداوى وأمر بالتداوي في قوله: «تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ مَعَهُ شِفَاءً إِلَّا الْهَرَمَ» (رواه ابن ماجة (3436)، واللفظ له وأحمد (18454)، وغيرهما).
والثاني وهو المقصود: أن طلب الرقية ينافي تمام التوكل، كما قرر العلماء في تفسير اجتماعهما معًا في الحديث، ولعل سبب ذلك أن النفع في الرقية لا يعتمد فحسب على تأثير الدواء نفسه -كما هي الحال في العقاقير- وإنما أيضًا على حال الراقي من إيمانه بما يرقي به وقصد نفع المريض وتخيره للمناسب من الرقى، فكان من تمام التوكل على الله قصد المريض ذلك بنفسه من الله فحسب لا طلبه من البشر.