يرتبط قلب المؤمن ارتباطاً خاصاً بالطير، فغير أن أسرابه المحلقة في سماء الله فوقنا وحولنا تكاد تنطق بأعلى الأصوات باليقين في ملكوت الله، لدرجة أن أهل الصفاء أوجدوا لصوت الكروان معنى يناديهم ويهيم بهم ويهيمون به: «الملك لك، لك يا صاحب الملك»، ومن تكرار المألوف يأتي العزوف، كما يقولون.
إلا أن لحظة تأمل خاطفة بها ما بها من الدهشة في هذه الصافات المحلقات تكفي لجعل الإنسان يحلق معها في صفاء وسماء اليقين، وهو يراها تطير وتطير، وما يمسكهن إلا الرحمن، كما تقول الآية الكريمة في سورة «الملك» (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ) (الملك: 19).
في «الصحاح» أن أرواح المؤمنين طائر يسيح في الجنة، وأرواحَ الشهداءِ في أجوافِ طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش.
وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير»؛ أي: في رقتها وخفتها وتوكلها على الله عز وجل.
سنتذكر الطير الأواب مع عبد الله ونبيه داود عليه السلام: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) (سبأ: 10).
لكننا سنقف كثيراً أمام الهدهد الذي عرَّض حياته للخطر، وهو يقف أمام نبي الله سليمان الذي يتوعد من يغيب عنه بلا سبب، وسنرى في هذا الهدهد اليقين كله وهو في موقفه أمام نبي الله سليمان لا يأبه لتهديده، فقد كان في شغل آخر أكثر خطراً، فعلى وجه الأرض هناك من يسجدون لغير الله الواحد القهار، رب السماوات والأرض رب العرش العظيم.
إنه لموقف من مواقف الشجاعة والثبات والمسؤولية التي تنطق بما لا يحصى من المعاني والاعتبار، ملك صاحب سلطان وأوتي من كل شيء، وفرد في البلاد ولعله من فئة الضعاف، يتبادلان السؤال والجواب.
وسيكون مهماً هنا أن ننتبه إلى أن لغة الحوار المتبادلة سواء من النبي سليمان عليه السلام، أو من الهدهد، في حالة من التصعيد والحدة المتبادلة.
فإما أن الهدهد كان قد اعتبر المسألة منتهية بالنسبة له، فحدث نفسه أن يموت شجاعاً (وبعض الموت أفضل من بعض!)، أو أنه كان شديد الثقة بحلم وعقل سيدنا سليمان، خاصة حين يعرف سبب تأخره.
في كل الأحوال، يبقى الحوار بينهما نموذجاً فريداً في تقدير المسؤولية والشعور بالواجب من الطرفين، سواء من جهة سيدنا سليمان الذي يتفقد بنفسه واقع البلاد فيكتشف أن هناك غياباً لأحد من يتوجب حضورهم، فينطلق بسيل من التهديدات المرعبة التي يتطلبها الموقف منه.
أو من جهة الهدهد الذي التقطت عيناه أثناء طيره في سماء الله، وعلى الفور، أن هناك خللاً في الحالة الإنسانية السوية (السجود لغير الله) في مجتمع يحيا فيه بشر.
الحالة النفسية التي كان عليها الهدهد ساعة الحوار تثير الكثير من الدهشة والأكثر من الإعجاب!
فما أن تلقى تلك التهديدات من سيدنا سليمان حتى سارع بدوره إلى الرد، لم يتلعثم ولم يتردد ولم يلتمس الأعذار، بل رد بلغة لا تخلو من ندية وتحدٍّ فيقول: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ) (النمل: 22)، كما وردت القصة بأكملها في سورة «النمل».
لك أن تتخيل أن ملكاً له ملك لا نظير له لا من قبل ولا من بعد يقف بين جنوده من الإنس والجن، مهدداً متوعداً، فيأتيه الرد بكل هذا الثبات وكل هذه القوة وكل هذه الشجاعة، ثم يتحالم ويتعاظم وينتبه إلى جوهر المسألة، ولا يلتفت إلى مقولة: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ)؟!
هكذا الكبار لا يهتمون إلا بكل ما هو كبير، الجميع كان منتبهاً إلى أن هناك أمراً جللاً وخطيراً؛ ذلك أن الهدهد أردف جملته بـ(وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (النمل: 22)، والنبأ في اللغة له أهمية عظيمة تختلف وتفوق الخبر، واليقين هو العلم التام الذي ليس فيه شك، وأخذ الهدهد يصف ما رآه بدقة وتفصيل واختصار، وكأنه صور المشهد تصويراً.
لكنك تقف عند الإشراق وفيض الإيمان الذي تكاد تراه دمعاً في عين الهدهد وفي عين كل من يسمع الهدهد إلى يوم الدين؛ (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ {25} اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (النمل).
إنه يستكمل حديثه لمن يسمعونه، وعلى رأس مستمعيه النبي سليمان، وكلهم يؤمنون، ويعلمون، ويوقنون بتلك الحقائق التي ذكرها الهدهد النبيل، لكنه لم يملك منع نفسه من ذكر هذا اليقين، وكلنا نسجد حين نسمع ما ذكره الهدهد النبيل.
شجاعة الهدهد هنا التي هي الوجه الآخر لحالة انعدام الخوف عنده تبقى من أهم العلامات فيه.
ذلك أن الخوف شيء كريه مقيت، ومما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «لا يحقرن أحدكم نفسه»، قالوا: يا رسول الله، وكيف يحقر أحدنا نفسه؟! قال: «يرى أن عليه مقالاً ثم لا يقول فيه خشية الناس»، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم هنا أن المؤمن حين ينطق بما ينبغي النطق به، سيكون مدركاً لأمر الله من معاني الحكمة والكلام الحسن والجدل الجميل.
في كتابه البديع «منطق الطير» الذي يروى فيه العابد الناسك فريد الدين العطار (ت 1221م) قصة ثلاثة عشر طائراً ينعقد بهم المجلس، فيقررون أنه لا بد لهم من أن يخضعوا أنفسهم لواحد منهم يجعلونه مرشداً لهم أثناء بحثهم عن الحقيقة، حتى يوفقوا إلى العثور عليها، ثم يختارون الهدهد مرشداً لهم، ويأخذ الهدهد في مخاطبتهم بحديث طويل، وواضح طبعاً جوهر ومغزى اختيار الهدهد.
وسنظل نذكر الطير، ونتذكر به، ونذكر حديث الرسول الكريم عنه في أهم مشاغل الدنيا والناس؛ «الرزق»، كما جاء في الحديث الشريف: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً».