من أهم القوانين التي توصل لها ابن خلدون في كتابه «العبر وديوان المبتدأ والخبر» أن الخلال الحميدة أساس السياسة؛ فالسياسة والملك هي كفالة للخلق وخلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم، وأحكام الله في خلقه إنما هي الخير.
والخير في الأمم يكون بوجود خلاله فيهم؛ مثل الكرم والعفو عن الزلات، والقرى للضيوف، وحمل الكَلّ وكسب المعدم، والوفاء بالعهد، وبذل الأموال، وصون الأعراض، وتعظيم الشريعة، وإجلال العلماء الحاملين لها وحسن الظن بهم، والانقياد للحق، والتواضع للمسكين، واستماع شكوى المستغيثين، والتدين بالشرائع والعبادات والقيام عليها، والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد.
ابن خلدون يحدد سمات القيادة الأصيلة
بذلك، لخص ابن خلدون السمات التي تحتاجها الأمم في قادتها، التي تكفل لها القوة والاستمرارية والمنعة، وعندما تتوفر تلك السمات في القائد فإنه يستحق الملك، وتكون سياسته خيراً لأمته.
يضيف ابن خلدون: إنه إذا تأذن الله تعالى بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طرقها، فتفقد الفضائل السياسية، ولا تزال الأمة في انتقاص حتى يخرج الملك من أيديهم.
يضيف ابن خلدون: اعلم أنه من خلال الكمال التي يتنافس فيها القبائل أولو العصبية وتكون شاهدة لهم بالملك؛ إكرام العلماء والصالحين والأشراف وأهل الأحساب، وإنزال الناس منازلهم؛ لأن الكرم أهل الفضائل وكمال في السياسات العامة، وإنزال الناس منازلهم من الإنصاف والعدل.
وبذلك يكون ابن خلدون قد وضع الأساس لنظرية القيادة الأصيلة التي تتجلى أصالتها في التمسك بالأخلاق والقيم والفضائل والمبادئ، ومن أهمها إكرام العلماء والأشراف والصالحين، فالقائد الذي يتولى الملك، ولا يكون أهلاً له، يتعامل مع العلماء باستكبار وغرور، وتكون السلطة والقوة الغاشمة وسيلته للسيطرة، وليس السياسة والحكمة والخير والخلال الطيبة والأخلاق العالية، فهذه السمات لا تتوفر إلا في قائد أصيل تكون فيه سمات الخير ظاهرة.
القيادة وتأليف القلوب
يقول ابن خلدون: إن الملك يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية، وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه، وسره أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا حصل التنافس، وفشا الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق ورفضت الباطل وأقبلت على الله اتحدت وجهتها، فذهب التنافس وقل الخلاف وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة؛ فعظمت الدولة.
وهذا يوضح أن ابن خلدون اكتشف ركناً مهماً من أركان القيادة الأصيلة؛ وهو القدرة على تأليف القلوب وتحقيق تماسك المجتمع وتوحده، والتغلب على الخلافات والأهواء، وجمع الكلمة على الحق.
والدين يقوم بدور مهم في تأليف القلوب وجمع الكلمة وتوحيد الأمة، وهو مصدر المبادئ والأخلاق.
والإسلام هو الذي وحَّد كلمة العرب، فهم لم يتوحدوا قبله، والإسلام وحده هو الذي يمكن أن يوحدهم مرة أخرى، وهذه الوحدة هي أساس القوة.
إن أهم تجليات نجاح القيادة قدرتها على تحقيق تماسك الدولة وتوحدها، ويتجلى هذا التماسك في تأليف القلوب.
أما الحاكم المستبد المغرور بقوته الذي يعتمد في حكمه على قهر شعبه، فإنه يفرق بين الناس ويزيد الكراهية بينهم، وهذا يؤدي إلى انهيار الدولة.
سقوط الدول يبدأ بالتخلي عن المبادئ
والقيادة عندما تتخلى عن المبادئ والقيم والأخلاق تضعف الدولة، وتقلل إمكانات توحدها، وعندما يتزايد جشع الحاكم للمال، وتغره القوة، فإنه يبدأ في احتقار القيم؛ إذ إنه يعتقد أنها تشكل تقييداً لسلطاته.
والعدالة أهم المبادئ التي يتم التخلي عنها عندما يتم التركيز على تحقيق المصالح المادية، ولذلك يتزايد الظلم والعنصرية والكراهية.
والعامل الرئيس في تخلي القيادة عن المبادئ والقيم والأخلاق هو غرور القوة الذي يدفع إلى الاستكبار واحتقار الضعفاء وظلمهم ونهب أموالهم وقهرهم.
والدولة تتحمل مسؤولية اختيار قيادتها ونتائج أعمالهم، وقد يجد الشعب بعض الفخر في النتائج التي يحققها القادة المستبدون عندما يحققون بعض الإنجازات أو الانتصارات، لكن تلك الدول تكتشف بعد فترة قد تطول أنها تتعرض للكراهية، والسخط الذي يملأ قلوب المظلومين، والقوة لا تدوم طويلاً في يد أي دولة، فكم من دول انهارت وهي تمتلك القوة المادية؛ مثل الجيوش الجرارة، والأسلحة الفتاكة!
وهكذا، فإن القائد المغرور بقوته المادية، كما أوضح لنا التاريخ، يقود دولته للهلاك والانهيار.
القيادة وتوجيه البوصلة
إن المبادئ والقيم والأخلاق التي تتمسك بها الأمة وقيادتها هي البوصلة التي توجه الأمة، وتبني وحدتها، وتزيد قوتها.
لذلك، فإن كل أمة تريد المحافظة على حياتها وملكها فإنها تحتاج إلى منظومة من المبادئ والقيم والأخلاقيات تنظم حياتها وعلاقتها بقيادتها.
في ضوء ذلك يمكن أن نفهم إشارة ابن خلدون إلى أهمية العلاقة بين الأمة والقيادة، وإن هذه العلاقة هي أساس القوة.
ويستدل ابن خلدون على ذلك بتصوير العلاقة بين الخلفاء الراشدين والمؤمنين الذين أطاعوا الخلفاء على أساس الدين، وإن المؤمنين كانوا يعبدون الله بطاعتهم للخلفاء، وليس طمعاً في مال أو منصب، ولا خوفاً من أذى، كانت تلك العلاقة تقوم على أن المسلم يعتز بكرامته ويتحمل المسؤولية عن تحقيق الأهداف العليا للأمة المسلمة ويحمل رسالة الله إلى البشرية.
إن طاعة المؤمنين للخلفاء لم تكن نتيجة للخوف من قوتهم أو سلطتهم، ولكن لأن المؤمنين والخلفاء يعملون معاً لتحقيق رؤية إسلامية، وأهداف يتفق عليها الجميع.
والخلفاء يحرصون على وحدة الأمة، والعدل يضمن هذه الوحدة ويحميها.
لذلك لم يكن المؤمن وهو يقوم بمسؤوليته ويطيع أميره يريد جزاء أو يخاف من عقاب.
والمبادئ الإسلامية التي التزم بها الخلفاء الراشدون هي التي تقوم عليها وحدة الأمة، ويتم التحاكم إليها والاتفاق حولها، وكل مؤمن يستخدم كل قدراته ومواهبه وإبداعه لتحقيق الأهداف وتطبيق المبادئ والالتزام بالأخلاق.
فكانت المبادئ الإسلامية هي البوصلة التي توجه الأمة وترشدها وهي تعمل لتحقيق أهدافها.
فكيف لأمة أن تعيش دون مبادئ؟ وكيف لها أن تتوحد وليس لها أهداف عليا يعمل لتحقيقها القادة؟
ودون هذه المبادئ تنهار الدول بعد أن ينخر سوس العنصرية وحدتها، ويضعف التركيز على المصالح والمنافع تماسكها.
والتاريخ يوضح لنا أن الدولة التي تقوم على المبادئ والأخلاق هي دولة تستحق الاعتزاز والفخر بالانتماء لها، والعمل لتحقيق أهدافها، فتتزايد قدرات شعبها على الابتكار والإبداع والعمل والدفاع عنها.