بات التطبيع إحدى الوسائل السياسية الأساسية لتحقيق أهداف المشروع الصهيوني المتمثلة أساساً في تكريس وجود «إسرائيل» عبر تصفية القضية الفلسطينية وإفراغها من مضمونها كقضية تحرر وطني لشعب اغتصبت أرضه وتم تشريده، وارتباطاً بهذا المشهد يعمل العدو الصهيوني على أن يجبر المحيط العربي على القبول به كياناً طبيعياً وجزءاً متفوقاً من المنطقة، بحيث يؤدي دوراً رئيساً في سياسة المنطقة، فيبني التحالفات للوقوف أمام أي بلد عربي تسول له نفسه الخروج من الإطار الإمبريالي أو مجرد التفكير بذلك.
كذلك، وفي سياق التطبيع أيضاً، يسعى الكيان الصهيوني إلى تكريس الهيمنة اقتصادياً وأمنياً وسياسياً على الدول العربية في محيطها المباشر علاوة على إستراتيجيته الهادفة للسيطرة على بلدان الوطن العربي لكي تصبح هذه الدول سوقاً واسعة للرأسمال الأمريكي والصهيوني من ناحية، ولكي تبقى في حالة من التخلف والتبعية والضعف والتفكك من ناحية أخرى.
تهديد للثوابت
إن موضوع التطبيع العربي «الإسرائيلي» قضية خطيرة في النزاع السياسي العربي اليوم، خاصة بعد «الربيع العربي» وما نتج عنه من حكومات أكثر استبداداً وقمعية، ومع اضمحلال الهوية الفكرية والثقافية العربية جاء التطبيع ليشكل تهديداً حقيقياً للثوابت العربية الإسلامية، فحتى الشعوب الرافضة والمعارضة للتطبيع لا تستطيع إجبار حكوماتها على الانسحاب والتخلي عن تطبيعها مع الكيان الصهيوني.
يلقى التطبيع بظلاله على الأجيال الناشئة الذين يتعلمون في مناهجهم عن الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في أرضه التي سلبت منه بفعل الاستعمار الاستيطاني لليهود، والممارسات القمعية الوحشية والمجازر التي مارستها العصابات الصهيونية لتهجيره من أرضه وطمس معالمها الفلسطينية، تمثل ذلك في:
1- نشأة تلك الأجيال على واقع احتلالي استعماري سلب الأرض وهتك العرض واستباح المحرمات، فكان لا بد من مواجهته ومجابهته بشتى السبل، وعلى رأسها المقاطعة ورفض التطبيع أولاً، والتفاعل المباشر مع قضايا النضال والتحرر ثانياً.
التطبيع بكل أشكاله مع الكيان الصهيوني محرّم في الكتاب والسُّنة
2- وجود مخزون كبير من الغضب الشعبي والجماهيري ضد «إسرائيل» تمثله حالات التضامن الواسعة مع حملات المقاطعة وتفاعلات الأجيال مع النضال الفلسطيني.
3- رفض فكرة التعايش مع هذا السرطان الاحتلالي الذي فتت المنطقة، وتعزيز فكرة الانتماء للأمة العربية والشعوب الرافضة للقبول به.
والتطبيع بكل أشكاله سواء سياسي أو اقتصادي أو ثقافي أو أمني مع الكيان الصهيوني محرّم في الكتاب والسُّنة النبوية الشريفة وأقوال العُلماء العدول في هذه الأمة، لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة: 51)؛ لأن اليهود من أشد الناس عداوة للإسلام وأهله لقوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) (المائدة: 82).
والتطبيع مع الكيان الصهيوني خطر كله ومن كبائر الإثم والعدوان، ولكنّ الأشد خطراً والأعظم إثماً هو استمرار الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وعلى الرغم من هذه الحرمة القطعية من التطبيع مع الكيان الصهيوني، فإن دولاً كثيرة من أبناء جلدتنا تنطق بعربيتنا باتت تتبجّح بالانفتاح على الكيان الصهيوني، وباتت تُسوق لجعله جزءاً من النسيج الجغرافي والاجتماعي للعالم العربي.
إن الكيان الصهيوني هو النقيض الإستراتيجي لشعوبنا وامتدادنا في الوطن العربي، المناصرين لفلسطين وقضيتها، والمؤمنين بعدالتها؛ ومن ثم فإن التناقض بين الطرفين تناقض تناحري مطلق لا يمكن التوفيق بينهما، فإما الكيان الصهيوني المتمدد، وإما الأمة العربية الموحدة الرافضة لفكرة الصهيونية والتعايش معها، لذلك فإن التعامل مع الكيان الصهيوني وكأنه كيان طبيعي والاعتراف به هو نفي للذات العربية، والقبول به هو في جوهره قبول للاستعمار والتجزئة والتفتيت واحتلال أرض فلسطين، والتسليم أيضاً بفكرة الأمة اليهودية وشعب الله المختار.
قد تستطيع الأنظمة الحاكمة توقيع اتفاقيات تطبيع مع العدوّ، لكنها لن تستطيع تغيير إرادة الشعوب الرافضة لفكرة القبول بـ«إسرائيل» كدولة صديقة والتعايش معها، لأنها تؤمن بأنها دولة استعمارية نازية اقتلعت شعباً عربياً أصيلاً من أرضه بالقتل والتدمير والتهجير، وشتتت ما تبقى منه في فيافي الأرض وجعلت من شعبه لاجئين مهجرين، ولأنها تدرك في الوقت نفسه بأن التطبيع معها خيانة لا يمكن القبول بها، وبأن مواجهته بكل السبل الممكنة وسيلة من وسائل مقاومة العدو الصهيوني والوقوف في وجه مخططاته الاستيطانية والتهويدية لفلسطين والوطن العربي بأكمله.
أدوات مواجهة التطبيع
وتتعدد الأدوات المتوافرة لمواجهة التطبيع، ولن يعدم أي مؤمن بالقضية الفلسطينية وسيلة لنصرتها، ولعل أحد الطرق إلى ذلك رفض التطبيع ومقاومته، من خلال وسائل عديدة سواء فردية أو جماعية كالمقاطعة السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية والفنية والرياضية وعدم المشاركة في الفعاليات التي يدعو لها الاحتلال الصهيوني وعزله، والعمل على نشر الوعي على المستوى الشعبي للتعريف بخطورة التطبيع على القضية الفلسطينية والحق الإسلامي والعربي، والمساهمة في تعزيز الرفض الشعبي للتطبيع كجريمة وخيانة.
إن مقاومة التطبيع تحتاج منا جهداً كبيراً ووقتاً كثيراً من أجل الانتصار على العدو، وتحرير أرض فلسطين من خلال:
– مطالبة المؤسسات والهيئات والجمعيات العاملة في مجال مقاومة التطبيع ومناصرة فلسطين بتعزيز خطابها بلغة الأرقام والإحصاءات الدقيقة، وتغليب المصلحة الوطنية، والتركيز على الخطاب الديني والابتعاد عن الخطاب الذي يرتكز على الجوانب العاطفية فقط، وكشف أخطار الاتفاقيات التطبيعية مع الاحتلال الصهيوني، وبيان خطرها.
– ضرورة القيام بفعاليات متنوعة بين المظاهرات الاحتجاجية والمسيرات الشعبية الاعتصامات أمام السفارات الصهيونية، والحملات الجماهيرية والإلكترونية للتعبير عن الرفض العربي الجماهيري لفكرة تقبل الصهيونية.
الكيان الصهيوني النقيض الإستراتيجي لشعوبنا وامتدادنا في الوطن العربي
– تعزيز المقاطعة وحملاتها الهادفة لرفض التطبيع وقطع كافة أشكال التطبيع والعلاقات الدبلوماسية والسياسية مع دولة الكيان الصهيوني.
– تشكيل جبهة عربية إسلامية لمواجهة التطبيع، وتوحيد القوى في كل الساحات، وإعادة الاعتبار للصراع مع الكيان الصهيوني كأولوية.
– توفير كل سبل الدعم المالي وفتح قنوات وخطوط إمداد جديدة لأي فعل سياسي وإعلامي وعسكري مناهض لـ«إسرائيل» ضمن الجبهة الموحدة لمقاومة التطبيع.
– تبني رؤية موحدة حول الأمن القومي العربي والإسلامي ورفض التطبيع ومناهضته وتقوم على أساس «لا وجود للأمن القومي العربي طالما أن هذا السرطان الصهيوني الخبيث مستقر في قلب الوطن العربي».
– تطوير أداء المقاومة وزيادة زخم الفعل والتأثير على الأرض بحيث تسعى للتمدد والسيطرة لمنع توسع السرطان الصهيوني الأمريكي، وتطوير منظومة الدفاع الأمنية من خطر الاستهداف والاختراق الصهيوني والعمل بالبعد الاستخباري المضاد لمواجهة التطبيع.
إن التحدي المركزي للشعوب العربية والإسلامية الذي يستوجب استجابة حاسمة هو الكيان الصهيوني، الذي يستهدف بعملية التطبيع وعي المجتمعات وضميرها للسيطرة على الإقليم الجغرافي العربي من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه، وصناعة إنسان جديد في المجتمعات العربية الإسلامية اسمه «الإنسان الأبتر» الذي لا تهمه قضايا أمته والمتغافل عن الجرائم والانتهاكات الصهيونية ضد الشعب العربي الفلسطيني، المقتنع بفكرة السلام والتعايش مع «الإسرائيليين»؛ وبالتالي يجب التعامل معه بكل حرفية من خلال كي الوعي العربي ورفض التطبيع مع «إسرائيل» كونها دولة حرب وإجرام.
وختاماً يمكن القول: إن دولة الكيان الصهيوني لم تنشأ إلا كشكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني العنصري في بلادنا، المستند إلى دواعي القوة الغاشمة والاغتصاب، لحماية مصالح الدول الغربية وأمريكا في منطقة الشرق الأوسط، التي زرعتها لتكون الذراع التي تضرب بها في المنطقة؛ وهي بالتالي دولة استعمارية عنصرية لا تؤمن بالشراكة، وإنما تستخدم أساليب خداعية من أجل تحقيق مآربها في المنطقة والوصول إلى أهدافها الاستعمارية من منطلق ديني توراتي بحت لا يمكن أن ترقى عبر هذا الدور الوظيفي لتصبح جزءاً من نسيج هذه المنطقة العربية ومستقبلها بأي شكل من الأشكال، مهما تطورت وانتشرت عمليات التطبيع معها.