شهدت فلسطين منذ الاحتلال البريطاني العديد من الهبات والثورات، في سيرورة متواصلة من المقاومة والتصدي لمشاريع الاحتلال والإحلال، وقد ألهب المسجد الأقصى المبارك الشرارة الأولى للكثير من هذه الهبات، فمن ثورة البراق، مرورًا بهبة النفق، وليس آخرًا بهبتي بابي الأسباط والرحمة ومعركة سيف القدس، فقد كانت القدس في كل واحدةٍ منها تنفض عنها محاولات التهويد و«الأسرلة»، وتنتفض ردًا على اعتداءات الاحتلال وجرائمه بحق القدس ومقدساتها، وفي القلب منها المسجد الأقصى المبارك.
الهالك شارون واقتحام المسجد الأقصى
اندلعت شرارة انتفاضة الأقصى في 29/ 9/ 2000، على أثر اقتحام زعيم حزب الليكود حينها أرئيل شارون لساحات المسجد الأقصى قبلها بيومٍ واحد في 28/ 9/ 2000، وشارك في تأمين الحماية لشارون نحو ألفي عنصر أمنيّ داخل الأقصى، وفي أزقة البلدة القديمة في القدس المحتلة، وكان الاقتحام بموافقة من إيهود باراك (حزب العمل)، رئيس حكومة الاحتلال آنذاك. في أثناء الاقتحام، صرّح شارون أنّ الأقصى سيبقى منطقة «إسرائيليّة»، ولكن المصلين والمرابطين وقفوا في وجه الاقتحام وحاولوا صده بكل ما لديهم من قوة، ما أدى إلى اندلاع مواجهات عنيفة، ارتقى فيها نحو 5 شهداء، وأصيب نحو 100 فلسطينيّ بجراح متفاوتة.
وقد شكل اقتحام شارون تأكيدًا على أطماع الاحتلال وأذرعه المختلفة بالمسجد الأقصى المبارك، واستمرارها بالسيطرة على الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات، وكشفت وثائق «إسرائيليّة» لاحقًا بأن رئيس وزراء الاحتلال حينها إيهود باراك قال في أحد الاجتماعات السريّة بأن الحل الوحيد الذي لاح في الأفق، كان دفع الوضع إلى الانفجار، وأراد من تفجير الأوضاع رفع شعبيته، والضغط على السلطة الفلسطينيّة، وفتح المجال أمام المزيد من القمع الوحشي ضد الفلسطينيين في كل المناطق المحتلة.
الشهيد محمد الدرة أيقونة الانتفاضة
ولم يمض سوى يومين على ما جرى في الأقصى من اعتداءات، حتى شاهد العالم جريمة أخرى ارتكبها جنود الاحتلال، تمثلت بقتل الطفل الفلسطيني محمد الدرة (11 عامًا) بدمٍ بارد، والذي تحول إلى أحد رموز انتفاضة الأقصى، وقد أظهر مقطعٌ مصور التقطه مراسل قناة تلفزيونية فرنسية في 30 سبتمبر 2000، مشاهد إعدام الطفل الدرة، وشكلت صورته وهو يحتمي بوالده إلى جوار مكعبٍ إسمنتي في شارع صلاح الدين جنوبي مدينة غزة، واحدًا من المشاهد التي لا تُمحى في الذاكرة الفلسطينية والعربية. وقد ألهبت هذه المشاهد الانتفاضة الفلسطينية، وشهدت الأراضي المحتلة عشرات المظاهرات والمواجهات.
وتلاحقت العمليات الفردية فاستهدفت المقاومة قلب دولة الاحتلال، وكانت عملياتٍ مؤثرة كلفت الاحتلال أثمانًا باهظة، وفي محاولة لوقف هذه العمليات نفذ جيش الاحتلال عمليات عسكرية ضد المدن الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو ما أدى إلى ارتقاء عشرات الشهداء، وتدمير آلاف المنازل، ومن أبرز نلك العمليات اجتياح مخيم جنين، وعلى الرغم من استخدام العتاد العسكري الثقيل لاستهداف المخيم، إلا أن الخسارة الإسرائيلية كانت فادحة، فسقط لجيش الاحتلال عشرات القتلى والجرحى.
نهاية الانتفاضة وحصيلتها
استمرت الانتفاضة حتى بداية عام 2005، وفي هذا العام بدأت بالتراجع نتيجة عوامل عديدة، أبرزها التطورات التي شهدتها الأراضي المحتلة بعد وفاة ياسر عرفات، ومن ثم إعلان الفصائل الفلسطينية وقف إطلاق النار في 22/ 1/ 2005، ومن ثم توقيع السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال اتفاق وقف إطلاق النار في 8/ 2/ 2005 في شرم الشيخ المصريّة، وقد جمع اللقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس المنتخب حديثًا حينها خلفًا للرئيس ياسر عرفات، ورئيس حكومة الاحتلال أريئيل شارون.
وقد أسفرت انتفاضة الأقصى عن استشهاد نحو 4412 فلسطينيًا، من بينهم 793 طفلًا، و270 شهيدة، وإصابة نحو 46 ألف فلسطينيّ، ونفذت الفصائل الفلسطينية أكثر من 22 ألف عملية استهدفت الاحتلال ومستوطنيه، وأدت إلى مقتل نحو 1100 مستوطن، من بينهم 300 جندي في جيش الاحتلال، إضافةً إلى جرح نحو 4500 آخرين. وبلغ عدد المنازل التي دمرتها قوات الاحتلال بشكلٍ كلي أو جزئي نحو 71740 منزلًا، إلى جانب عشرات المدراس وغيرها.
وقد نفذ الاحتلال خلال سنوات الانتفاضة عشرات عمليات الاغتيال، استهدفت قادة المقاومة وكوادرها الرئيسيين، وقد خسرت المقاومة الفلسطينية حينها عددًا من كبار قادتها من أمثال الشهداء صلاح شحادة وإسماعيل أبو شنب، وكانت أخطر عمليات الاغتيال تلك اغتيال الشيخ القعيد أحمد ياسين في 22/ 3/ 2004 الزعيم الروحي لحركة المقاومة الإسلاميّة حماس، ومن ثم اغتيال القائد عبد العزيز الرنتيسي في 17/ 4/ 2004.
رسائل ودروس في ذكرى الانتفاضة
على الرغم من مرور نحو 23 عامًا على اندلاع هذه الانتفاضة، فإن روح المقاومة في الشعب الفلسطيني ومن يساندهم من الأحرار لم تنطفئ، وما زال الفلسطينيون يواجهون الاحتلال وتغوله في القدس والضفة وغزة والأراضي المحتلة عام 48، ومن أبرز المؤشرات والدروس التي أفرزتها الانتفاضة بحسب المؤرخ الفلسطيني د. محسن صالح، ما يأتي:
أولًا: تفاعل الأمة المسلمة مع قضية فلسطين، وتمسكها بمواجهة الاحتلال، فقد شهدت تلك السنوات مظاهرات كانت تضم مئات الآلاف في أقطار العالم الإسلامي المختلفة، من المغرب وحتى الشرق الأقصى في إندونيسيا، وكانت تهتف للأقصى والقدس وفلسطين، كما قدمت ما لديها من تبرعات ودعم أحيت أخوة الإسلام ووحدة الأمة.
ثانيًا: دور الأقصى وفلسطين في جمع المسلمين وإزالة التنافر فيما بينهم، والتركيز على العدو المشترك.
ثالثًا: شكلت الانتفاضة ضربة قاسية لمشروع التسوية السلمية والتطبيع مع الاحتلال، وبرز خيار الجهاد بديلًا ممكنًا وقائمًا.
رابعًا: أثرت الانتفاضة على طريقة تفكير الناس، وأنهت دعوات الاستكانة إلى المحتلّ، ما أدى إلى اشتداد العداء للاحتلال، ونشر روح المقاومة والجهاد والتكافل بين أبناء المجتمع الفلسطيني خاصة، ومن خلفهم الأمة بشكل عام.
خامسًا: ظهرت في الانتفاضة سلاح جديد، ألا وهو الإعلام، ودوره في تعبئة الجماهير من جهة، وإظهار الرواية الفلسطينية والإسلامية من جهة أخرى، وكسر الطوق الإعلامي الغربي المتصهين من خلال الفضائيات العربية، والإنترنت، والبريد الإلكتروني، وغيرها.
أخيرًا، يلحّ في ذهن كل من يتابع تطورات الأوضاع في القدس وفلسطين، وما يقوم به الشبان من عمليات طعنٍ ودهس بطولية، هل نحن في انتفاضة جديدة؟
__________________________
1- محسن صالح، القضية الفلسطينية جذورها التاريخيّة وتطوراتها المعاصرة، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، 2022، ص 131-135.
2- براءة درزي، 18 عامًا على انتفاضة الأقصى: ما الذي يؤخّر اندلاع انتفاضة ثالثة؟، مؤسسة القدس الدولية، 2018، https://bit.ly/46p2HRt
3- جميل هلال، انتفاضة الأقصى الأهداف المباشرة ومقومات الاستمرار، مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 11، العدد 44، ص 26.
4- الجزيرة نت، 28/ 9/ 2016. https://bit.ly/3PRrNmE