يقول العصرانيون: «نحن لسنا ضد شريعة الله الثابتة بالنصوص، ولكننا ضد شريعة الفقهاء الذين فهموا النصوص بما يتوافق مع عصرهم الذي يختلف تمامًا مع عصرنا الحالي»!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
يثير العصرانيون مثل هذه الشبهات لا ليدافعوا عن الإسلام وتعاليم الإسلام؛ ولكن ليتهربوا من الالتزام بالتشريع الإسلامي بحجة أنه قديم، وقد بُني على يد فقهاء كانوا يعيشون عصرهم الذي يختلف مع عصرنا!
يقول أحدهم: «إننا نؤكد ضرورة التمييز بين الشريعة والفقه؛ فالشريعة الجزء الثابت من أحكام الإسلام، الثابت في النصوص القطعية في ورودها ودلالتها، والفقه تفسير الرجال لهذا الجزء الثابت المستمد مباشرة من النصوص القطعية وقياساتهم عليه، واجتهاداتهم فيما لا نصَّ فيه، وترجيحهم بين ما بَدَا تعارضه من الأدلة، وهو اجتهاد بشر يتفقون ويختلفون، وقلَّما يجتمعون، وخطؤهم وصوابهم ليس تشريعًا، ولكنه يعكس خطَّ كل واحد منهم من المعرفة بالوقائع ومصادر الأحكام، وقواعد التفسير وأصول الترجيح، كما يعكس ظروف الزمان والمكان، ويعكس بعد ذلك كله رأيه ورؤيته للقيم والمصالح والاعتبارات، وهو في ذلك كله يرمز إلى الجزء المتغير من تراث الإسلام، وباطل قول مَنْ قال: إن الأول لم يترك للآخر شيئًا.. فقد ترك له عَالَماً كاملاً غير عالمه، ودنيا غير دنياه، وتجربة جديدة لا تغني عنها تجربة قديمة، فتلك أمة قد خلت، (ولا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة: 134)(1).
ونؤكد هنا أن هذا رأي لا نستطيع رفضه، فالتشريع الإسلامي يحتوي بالفعل على نصوص منزَّلة من عند الله تعالى، وعلى تفسير الرجال لتلك النصوص، واجتهادهم فيما لا نَصَّ فيه، فذلك حَقٌّ لا مراء فيه، أما وصف فقه الرجال بالتغير وعدم الثبات فهو الموضع الذي يحتاج منا وقفة؛ ذلك لأن كلمة التغير كلمة تحتمل معاني متعددة، فمن الخطأ البَيِّن أن يقصد منها إطراح فقه العصور الماضية، والبدء في تدوين فقه عصري جديد!
وإذا قرر الجيل الحاضر أن يرفض كل ما أنجزته الأجيال الماضية من عمل وجهد، وأن يؤسس له بناءً جديدًا، على قواعد جديدة، فإن للأجيال الآتية بعده أن تتخذ قرارًا سفيها مثل هذا، وهذا لا يقول به عاقل! فإن أبناء الأمم المتحضرة لا يبيدون الجهود والأعمال التي تمت على أيدي أسلافهم، وإنما يتقدمون إلى الأمام ويضيفون إليها أعمالًا جديدة لم يُتَحْ للأولين أن يقوموا بها، وهكذا لا يزالون يتقدمون بخطى حثيثة في ميدان الكمال والارتقاء(2).
نعم، إن الفقهاء الأوائل بَشَرٌ يتعرضون لما يتعرض له البشر من الصواب والخطأ ليس في ذلك شك؛ لكن لا يعني هذا أن كل ما قالوه خطأ يجب تركه، وإذا كان الأمر كذلك، ألا يعني ذلك أننا معرضون للخطأ والصواب، أو لَسْنَا بشرًا مثلهم؟! فما الذي يفضلنا عليهم؟!
إن فقه الأولين فيه الخطأ والصواب، وكل ذي عقل يرى أن ما كان صوابًا قبلناه، وما كان خطأ طرحناه، وهذا ما أكده علماؤنا في السابق، قال الإمام مالك يرحمه الله: «كلُّ أحد يُؤْخذ من كلامه ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم»، وقال الإمام الشافعي يرحمه الله: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»، وقال الإمام أبو حنيفة يرحمه الله: «إذا صح الحديث فهو مذهبي»(3).
وقد روى الإمام النووي يرحمه الله عن الإمام الشافعي يرحمه الله أنه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوا قولي، وروى عنه: إذا صح الحديث خلاف قولي فاعملوا بالحديث، واتركوا قولي، أو قال: فهو مذهبي، وروى هذا المعنى بألفاظ مختلفة.
وقال الإمام النووي: وهذا الذي قاله الشافعي ليس معناه أن كل أحد رأى حديثًا صحيحًا قال: هذا مذهب الشافعي، وعمل بظاهره، وإنما هذا فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب، وشرطه أن يغلب على ظنه أن الشافعي يرحمه الله لم يقف على هذا الحديث، أو لم يعلم صحته، وهذا إنما يكون بعد مطالعة كتب الشافعي كلها، ونحوها من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها، وهذا شرط صعب قلَّ من يتصف به.
وإنما اشترطوا ما ذكرنا؛ لأن الشافعي رحمه الله ترك العمل بظاهر أحاديث كثيرة رآها وعلمها، لكن قام الدليل عنده على طعن فيها، أو نسخها، أو تخصيصها، أو تأويلها، أو نحو ذلك.
قال الشيخ أبو عمرو يرحمه الله: ليس العمل بظاهر ما قاله الشافعي بالهين، فليس كل فقيه يسوغ له أن يستقل بالعمل بما يراه حجة من الحديث(4).
وتقسيم الشريعة الإسلامية إلى شريعة الله وشريعة الفقهاء له إيحاءات خاطئة يُقصد من ورائها الخروج على الشريعة وعدم العمل بها بحجة أنها من أقوال الفقهاء، والأفضل منه أن نجعل التقسيم أكثر تفصيلًا، حتى يكون أكثر بيانًا ووضوحًا، وقد قسَّم الإمام ابن تيمية الشريعة إلى ثلاثة أقسام:
1- شريعة منزلة؛ وهي القرآن والسُّنة.
2- شريعة اجتهادية؛ وهي ما توصل إليها عن طريق الاجتهاد.
3- شريعة محرمة؛ وهي التي يظن أنها من الشرع وهي محض انحرافات، فالشريعة الاجتهادية تتعدد الآراء فيها في المسألة الواحدة، ونقبل ونرفض منها بحسب الأدلة، أما الانحرافات والتحريفات فمرفوضة كلها(5).
إن العصرانيين بإثارة هذه الشبهة يسيرون على منهج المستشرقين الذين لا يرون في تراثنا الإسلامي إلا السقطات التي قد يقع فيها هذا وذاك من العلماء!
______________________________
(1) «مواجهة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي المعاصر»، مجلة العربي، ص 22، العدد 222، مايو 1977م.
(2) «مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة»، أبو الأعلى المودودي، 1/ 172، بتصرف.
(3) ابن عابدين في «الحاشية»، 1/ 63.
(4) «المجموع شرح المهذب للشيرازي»، الإمام محيي الدين النووي، 1/ 104.
(5) فتاوى ابن تيمية، 9/ 308.