يحتاج التأثير الدعوي إلى بصيرة تسهم في إدراك الواقع وفهم الواجب تجاهه، من أجل الوصول إلى الهدف وتحقيق الغاية، وإن الدعوة الإسلامية تتطلع إلى تكوين هذه البصيرة في الدعاة، حتى يدركوا ما تنطوي عليه نفوس الناس، وما يجب لهم من مهارات وأدوات تستطيع أن تقودهم إلى الصراط المستقيم.
وتأتي هذه السلسلة من المقالات الدعوية تحت عنوان «الأسس النفسية للتأثير الدعوي» من أجل الوقوف على الركائز النفسية التي يستند إليها الداعية ليحقق النجاح في مهمته السامية، ويأتي الأساس الخامس عشر بعنوان «التلاحم مع المدعوين».
يقصد بـ«التلاحم مع المدعوين» التواصل الجيد الذي يسهم في تحقيق الوحدة والارتباط بين الداعية ومدعويه، بحيث يَشعر المدعو أن الداعية يعيش معه الآمال والآلام ويشاركه الأحداث العظام، فيحبه، ويستمع إليه، ويستجيب له في جميع شؤون حياته.
التأصيل الشرعي:
إن الناظر في القرآن الكريم يجد أنه يؤكد التلاحم بين الداعية والمدعوين، حيث إن الله تعالى أرسل إلى كل أمة رسولاً منهم، فقال: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ) (الأعراف: 59)، وعبر عن التلاحم بينه وبينهم بصفة الأخوة بين الرسول وقومه، فقال: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً) (الأعراف: 65)، (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً) (الأعراف: 73)، (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً) (الأعراف: 85).
كما عبّر الله تعالى عن هذا التلاحم من خلال اتحاد لغتهم، فكل رسول يتحدث بلسان قومه، حيث قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (إبراهيم: 4)، وكان كل رسول يحرص على معالجة المشكلات التي يعاني منها قومه وهو واحد منهم، فهذا هود عليه السلام يقول لقومه: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ {128} وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ {129} وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ {130} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (الشعراء31)، وهذا صالح عليه السلام يقول لقومه: (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ {146} فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {147} وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ {148} وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ {149} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (الشعراء)، وهذا لوط عليه السلام يقول لقومه: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ {165} وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) (الشعراء).
الداعية فرد من قومه هو منهم وهم منه يرتبط بهم ويحرص عليهم ويسعى لهدايتهم
فكل رسول يسعى لمواجهة ما شاع في مجتمعه من أخطاء ومعالجتها، بل إنهم أعلنوا ارتباطهم بأقوامهم حين صرحوا لهم بالخوف عليهم، كما في قول سيدنا نوح لقومه: (إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الأعراف: 59)، وقول سيدنا شعيب لقومه: (إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ) (هود: 84)، بل إنه أعلن أنه لا يريد مخالفة قومه، بل يريد إصلاحهم والاجتماع معهم على الخير، فقال لهم: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود: 88).
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم المثال الرائع في الارتباط بقومه والمشاركة لهم، فيرعى الغنم معهم وهو صغير، ويشارك مع أعمامه في القتال في حرب الفجار، فيناولهم السهام، ويشهد «حلف الفضول» مع أهل مكة في رفع الظلم عن المظلومين، ويشارك في بناء الكعبة بحمل الحجارة مع أقرانه، ويبلغ في الارتباط بقومه مبلغاً يجعلهم يصفونه بـ«الصادق الأمين»، وعندما اختلفوا في وضع الحجر الأسود بعد بناء الكعبة، رضوا به صلى الله عليه وسلم حكماً بينهم، واستبشروا بذلك، قائلين: هذا الأمين رضينا به حكماً(1).
وعندما بعثه الله رسولاً أعلن عن هذا الارتباط ومقتضياته في القرآن الكريم، فقال: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 128)، ففي هذا تأكيد على أن الداعية فرد من قومه، هو منهم وهم منه، يرتبط بهم، ويحرص عليهم، ويسعى لهدايتهم.
التوظيف النفسي:
أكدت الدراسات النفسية أن التشابه بين الجمهور والمتكلم يساعد على ارتباط الجمهور به، ومن ثم الاقتناع بمحتوى الرسالة(2)، ويمكن أن يتحقق هذا التشابه من خلال التعرف على المبادئ النفسية للتواصل وتطبيقها عملياً، وفهم دوافع الجمهور واحتياجاتهم وتوقعاتهم، ومعالجة مخاوفهم، وتحسين الثقة بينه وبينهم.
التوظيف الدعوي:
يسعى الداعية إلى توظيف الارتباط بينه وبين جمهوره في إيصال الرسالة الدعوية إليهم، واستجابتهم لها، مستخدماً في ذلك بعض الوسائل التي تفتح أبواب الثقة بينه وبينهم، ومنها:
أولاً: التحلي بالأخلاق الحميدة، والإخلاص، والصدق، والصبر، والتواضع، واللين، والزهد فيما عند الناس وحب الخير لهم.. وغيرها من الأخلاق التي تجعل المدعو يقبل على الداعية ويستجيب له.
ثانياً: التعرف على عادات المدعوين واهتماماتهم، والإحاطة بمخاوفهم، والحديث عن معالجة مشكلاتهم والسبيل إلى تحقيق آمالهم.
التشابه بين الجمهور والمتكلم يساعد على ارتباطهم به والاقتناع بمحتوى الرسالة
ثالثاً: حسن توجيه الخطاب إلى الجماهير؛ فلا يوجِّه الاتهامات المباشرة إليهم، ولا يبدأ بمواطن الاختلاف معهم، ولا يتعالى عليهم كأنه في برج عاجي أو من كوكب غير كوكبهم، ولا يخاطبهم بضمير الخطاب كثيراً كقوله لهم: «أنتم تفعلون كذا، وعليكم أن تفعلوا كذا»، بل يجعل خطابه بضمير الجمع، فيقول: «نحن نفعل كذا، ويجب علينا أن نفعل كذا»؛ بحيث يضم نفسه إليهم، ويضمهم إليه، ولا يشعرهم بالفرق بينه وبينهم.
رابعاً: الإقبال على المدعوين والابتسام لهم، فإن تعبيرات الوجه أحياناً تتكلم بصوت أعمق أثراً من صوت اللسان(3)، والعين تحمل ود القلب، والأسارير تنقل صدق الحب، والفم يترجم ذلك برسالة تعبر عنها الخلجات إلى القلوب مباشرة، وإن لم تكن تحوي حروفاً أو كلمات، ولكنها من أبلغ اللغات في التعبير(4)، وفي هذا دعوة إلى التواصل الشخصي والتفاعل الجيد مع المدعوين، بلسان الحال وجمال المقال.
الدليل على التأثير الناجح:
يعد التلاحم مع المدعوين وسيلة فاعلة من وسائل التأثير الدعوي في النفوس، ويدل على هذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية مع الأنصار، حيث خرج إليهم مع عمه العباس بن عبدالمطلب، فتكلم العباس وتكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، ولكم الجنة»، فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبياً، لنمنعنك مما نمنع منه نساءنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر.
فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الهيثم بن التَّيِّهانِ، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها -يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ بأيديهم، ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم»(5).
والناظر في ختام الموقف يجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يؤكد لهم أنه أصبح منهم وهم منه، وأنهم جميعاً جسد واحد، ودم واحد، ومكانهم واحد، ففي هذا الموقف تأكيد على التلاحم مع المدعوين بالحال والمقال، والإشارة والعبارة، حتى اطمأنت قلوبهم وهدأت نفوسهم، وظهرت ثمرة الإيمان في سلوكهم.
_______________________
(1) سيرة ابن هشام، (1/ 197).
(2) الإنسان وعلم النفس: د. عبدالستار إبراهيم، ص 227.
(3) كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس؟ ديل كارنيجي، ص 71.
(4) فقه الحركة في المجتمع: د. جمال ماضي، ص 183.
(5) سيرة ابن هشام (1/ 428)، والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده، (25/ 93 رقم 15798).