سيد السمكري (2)
صباح الجمعة التاسع من يونية أعلن المذيع اللزج في نشرة العاشرة الموجزة بالإذاعة، أن قواتنا أتمت انسحابها إلى غرب القناة، ونسي أن يتحدث هل عادت بدباباتها وأسلحتها، أم تركتها غنيمة سهلة للعدو؟ عسران شيخ البلد منتعش في بيته وأهل بيته يضجون بالفرح، وأمي تبكي في داخلها ولا تبين، أذيع في الراديو أن الزعيم سيلقي بيانا في المساء، وراح المعلقون والمسئولون في الاتحاد الاشتراكي يقولون: سقطت سيناء ولم يسقط النظام، وهذا يعد نصر ا عظيما! لم يسقط النظام الاشتراكي العربي وتحالف قوى الشعب العامل..
وخطب الزعيم:
– إني أتحمل كافة المسئولية كاملة، وسأعود مواطنا عاديا أناضل من بين الجماهير!
هكذا خطب من انهار جيشه في غمضة عين كما يقول الفلاحون البسطاء، وقال سعد بأسى:
– يجب أن نتحد في مثل هذا الظرف، وأن نشارك الجماهير التي خرجت في القاهرة والمحافظات ونهتف ببقاء الزعيم!
– ماذا يعني أن يبقى؟ هل المهزوم يبقى أم يحاكم يا سعد؟
قال زميل لنا خنقته العبرات فراح ينشج، ونحن نهدهده، ونحاول أن نواسيه:
– تمنيت أن أموت قبل أن تحدث هذه الكارثة. كنا في غيبوبة صنعها الساحر بكلماته!
رد سعد متمالكا نفسه:
– ضاعت القدس أيام الصليبيين، واستردها صلاح الدين، واحتلنا الغزاة مرارا، وحررنا بلادنا بالصبر والجهاد والأمل!
قال الزميل الباكي، وكان أكثرنا ثقافة:
– كيف يأتي صلاح الدين في أيام الاشتراكية والملوك الأحرار؟ صلاح الدين كان يعبد الله ويؤمن بالجهاد، ولكن الاشتراكيين لا يعرفون غير الكلام ولغة الإنشاء واتهام الشعب بالرجعية!
– هيا بنا نرفع الروح المعنوية للناس..
قالها سعد بحياد محيّر، ثم هتف:
– ابق يا زعيم، ابق يا زعيم، هات النصر من جديد،
تجمع عدد من الشباب والناس، وراحوا يرددون هتافات سعد، وانطلقوا يدورون حول أجهور، وتتعالى هتافاتهم، وجاء بعضهم بالطبول والدفوف التي يستخدمونها في الموالد والمناسبات، وتحول موكب الهتاف إلى حشد ضخم وخطب الشباب بالتبادل، وكأن البلد كلها خرجت رجالا ونساء تلتمس النصر في الهتاف والخطب. وحده عسران شيخ البلد وأولاده لم يُلاحظ لهم وجود وسط الحشد الذي يعرف بعضه بعضا!
بعد أيام غنت أم كلثوم أغنية لبقاء الزعيم المهزوم كتبها شاعر معروف، قال فيها:
قم واسمعها من أعماقي فأنا الشعب
ابق فأنت السد الواقي لمُنى الشعب
ابق فأنت الأمل الباقي لغد الشعب
أنت الخير وأنت النور أنت الصبر على المقدور
أنت الناصر والمنصور ابق فأنت حبيب الشعب….
وغنى فريد الأطرش:
ما لعدوان مفر… والوغى كر وفرُّ
كأن الأغاني يا سعد هي سلاحنا النووي الذي سيقضي على الأعداء بالضربة القاضية. صحيح أنها ترفع الروح المعنوية، ولكن العدو يا سعد يستعمل الطائرات والدبابات والمدافع، ولا يقاتل بالأغاني.. هل سمعت أغنية بالعبري أو العربي في راديو العدو تحارب بدلا من الجنود؟ أقصى ما فعلوه هو إذاعة بعض المقطوعات الموسيقية الغربية التي يمكن أن تذاع في كل وقت!
استقبلت القرية عددا من الجنود العائدين من سيناء منهم عبد الله حلاوة، والأستاذ عنتر الكاشف، وكان منظر العائدين لا يسر، وكلامهم سمًّا قاتلا يحكي عما وجدوه في سيناء وعما جرى لهم، غاب آخرون لم يعرف أحد مصيرهم، ولم يأت خبر عنهم، وعم الحزن والبؤس، وراح الناس يتداولون بعض البطولات الفردية للقادة والجنود، وكان بعضهم يتصور أنها حكايات خيالية، وفاجـأهم اسماعيل عطية:
– سعد الشاذلي اخترق الأرض المحتلة قبل 48 بكتيبته، وحافظ على جنوده، ومعداته، ورفض الانسحاب إلا بعد أن أمره الزعيم بالعودة، فاشترط عدم التعرّض لقواته ومعداته،
أيده بعض الزملاء الذين قالوا إنهم سمعوا ذلك في هنا لندن…
أخذ الناس في قريتنا وغيرها من البلاد يعزّون أنفسهم بحكايات البطولة التي تاهت في زحام النكسة التي بدلوها إلى وكسة، وازدهرت النكات القبيحة والنميمة المؤلمة حول العلاقات بين القادة والمسئولين وحياتهم الشخصية، وكل يوم جمعة ينتظر الشعب ما يقوله كاتب الصراحة لعلهم يكتشفون ضوءا في آخر النفق يخرجهم من الظلمات إلى النور، ولكن سعد حلاوة، قال ساخرا:
– هل خض الماء ينتج زبدا؟
وراح يتلو بعض أبيات من الشعر وعبارات قديمة، ونحن نصغي إليه في غير مبالاة:
يَا من لهُ سترٌ عليّ جميلُ.. هل لي إليكَ إذا اعتذرتُ قبولُ
أيّدتني وَ رحمتني وَ سترتني. . كرَماً فأنتَ لمن رجاك كفيلُ
وَعصيتُ ثمّ رأيتُ عفوكَ واسعاً. . وعليّ ستركَ دائماً مسبولُ
فلكَ المحامدُ والممادح في الثنا.. يا مَن هو المقصود والمسؤولُ
قاطعه إبراهيم مصطفى، وقال له ساخرا:
– ليتك تقرأ علينا أبياتا في الحب، فهي ألذّ من أدعية الظالمين التي لا تستجاب!
همّ سعد بالدخول في مناقشات حادة مع إبراهيم، ولكنه أدرك أن اللحظة تقتضي المهادنة، فقال لإبراهيم:
– سوف أرضيك وأحقق مطلبك،
وراح ينشد:
ولقد أَقولُ لِمَنْ تحَرّشَ بالهوى عرّضْتَ نفسَكَ للبَلا فاستهدفِ
أنتَ القَتِيْلُ بأيّ مَنْ أحبَبْتَه فاختر لنَفْسِكَ في الهوى من تصطفي
قُلْ للعذولِ أطلْتَ لومي طامعاً إنَّ الملامَ عن الهوى مُستوقِفي
دَعْ عنكَ تَعنيفي وذُقْ طعم الهَوَى فإذا عشِقْتَ فبعدَ ذلكَ عَنّفِ
قال أحمد عبد ربه الفلاح الذي يرافقنا أحيانا في سهرات الليالي المقمرة:
سأسمعكم شيئا أعجبني، لأحد الزجالين، لعله يعجبكم. وراح يقرأ:
يا اهل مصر المحمية بالحراميه
الفول كتير والطعمية والبر عمار
والعيشه معدن واهي ماشيه اخر اشيا
مادام جنابه والحاشيه بكروش وكتار
الحمد لله وأهي ظاطت والبيه حاطط
في كل حته مدير ظابط وإن شالله حمار
الحمد الله ولا حولا مصر الدوله
غرقانة فى الكدب علاوله والشعب احتار
وكفايه اسيادنا البعدا عايشين سعدا
بفضل ناس تملا المعده وتقول اشعار
اشعار تمجد وتماين حتى الخاين
وان شا الله يخربها مداين عبد الجبار
ضحك الزملاء جميعا، واستحسنوا ما قاله أحمد عبد ربه، وإن كان الأسى يكاد يقطر من وجوههم الحزينة الكسيرة!
***
قال لي سعد بعد أسابيع من الهزيمة التي سموها نكسة:
– هناك وظيفة في طوخ بمرتب معقول سيزداد مع التفوق في العمل. ما رأيك؟
دهشت للمفاجأة الجميلة، فأنا أريد عملا دائما، أستطيع من خلاله أن أساعد الأسرة، وأتهيأ للمستقبل الذي لا يبدو مشرقا في ظل النكسة. فرِحتُ في أعماقي، ولم أستطع الرد عليه لفرط سعادتي، فقال:
– أجرة السكة بسيطة، وستكون هناك حوافز بعد شهور!
قلت له:
– على بركة الله.
تسلمت العمل، وبذلت جهدا كبيرا لإرضاء المسئولين. واشتريت لنفسي من أول مرتب بعض الملابس اللائقة بموظف بسيط. وأعطيت أمي نصف المرتب لتشتري قمحا وذرة وأرزا، فهي من أساسيات البيت، وكلما عدت من العمل حملت معي بعض الفاكهة أو الأغراض التي تطلبها أمي للبيت، وسعد إخوتي بالتطور الجديد. كنت أدخر لبناء البيت الصغير وتأثيثه، لم تكن لي احتياجات كبيرة، ولأني لا أعرف الإسراف، فقد تجمع في يدي بعد شهور قاربت السنة مبلغ لا بأس به، وبدا لي أن أجدّد البيت، وقطعت مرحلة أولية لا بأس بها، صارت في بيتا ثلاث غرف صغيرة وحمام ومكان للطبخ بدون طلاء أو بلاط، ولكن سقفها لا يسرب الماء في أيام المطر، وهي أفضل كثيرا من الوضع السابق، وتوقعت في العام التالي أن أكمل ما بدأته، وأتوجه بعده للعروس المنتظرة. ولكن تأتي الرياح بما لا يَشتهي السَّفِنُ!
استدعاني رئيس شئون العاملين وهو كهل تبدو عليه الطيبة والرضا، رحّب بي في ودّ غير عادي، وطلب لي الشاي، وقال لي:
– هناك أمر لا بد أن أخبرك به، ولو أنه غير مريح!
خفق قلبي. وتوقعت شرا، وقلت في سري: استر يا رب. ولكن الرجل بأبوة حانية، أخبرني:
– تعلم أن البلاد في وضع صعب، وأمثالك من الشباب يستدعونهم للخدمة العسكرية، وقد طلبوا منا ألا يبقى موظف في العمل قبل سن الثلاثين دون أن يقدم ما يثبت أداء الواجب الوطني أو يحدد موقفه من التجنيد..
التقط أنفاسه، ثم أضاف:
– عدد من زملائك هنا، أخلوا طرفهم وذهبوا إلى منطقة التجنيد! وتستطيع اليوم أو غدا أن تخلي طرفك، وعندما يتم قبولك في التجنيد تستطيع أن تطلب من وحدتك العسكرية الاحتفاظ بوظيفتك.
كان يحدثني، ورأسي تدور، وكأن بداخلها موتور لا يتوقف عن الدوران الصاخب، وانعقد لساني وأنا في حالة استسلام لا أدري ماذا أقول؟ لا أدري كيف شكرته. أخليت طرفي، وصرت بعد أيام جنديا مجندا في سلاح المشاة..
كنت أفكر في أبي وأمي وإخوتي، وعرفت أن الجيش يدفع للجندي أربعة وخمسين قرشا وجنيهن لمصروفاته الشخصية. حمدت الله، وقلت: الجنيهان لأمي من أجل البيت، والباقي لي، أنفقه في المواصلات عند الإجازة، وبعض ما أحتاجه من طعام.
لم أكن غاضبا لأنهم انتزعوني من وظيفتي، وألقوا بي في جبّ الحياة الخشنة، ولكني كنت مشفقا على أهلي بعد انقطاع مرتب الوظيفة الذي غيّر حياتهم إلى الأفضل، فعائد مهنة أبي قليل، ولا دخل آخر هناك. هذا ما كان يقلقني. وظللت أفكر في حال أهلي طوال فترة التدريب التي استمرت نحو شهرين، حصلت بعدهما على إجازة قصيرة، طمأنني فيها سعد حلاوة نفسيا، وقال لي:
– اعتمد على الله، ولا تحمل همّا، وصبرك على متاعب العيش لا يقل عن جهادك بالسلاح. والثواب بقدر البلاء. وتلا الآية الكريمة: “ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم”.
***
مضت الأيام متشابهة والعدو يقوم بعمليات إبرار جوي أو بحري، وخاصة في الأماكن المتطرفة، فيفكك جهاز رادار، أو يفجر بعض القناطر والسدود، أو يختطف جنود موقع بعيد عن أماكن الكثافة العسكرية، وهو ما جعل القيادات تفكر في سد الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها العدو، ثم سمع العالم عن عمليات المصريين خلف جيش الاحتلال في سيناء تقوم بها مجموعات من القوات الخاصة. اشتعلت حرب الاستنزاف التي لم يتورع فيها العدو عن قصف البيوت الآمنة وقتل المدنيين، واستشهد رئيس الأركان عبد المنعم رياض، وكان من القادة المحترفين البارزين، وعمّ الحزن مصر كلها حين قصفت طائرات العدو مدرسة بحر البقر الابتدائية، حيث ارتقى عشرات الأطفال الأبرياء إلى بارئهم…
حين انتهت مدة الخدمة الإلزامية، حوّلوني إلى الاستبقاء بحيث يتم تسريحي من الجيش عند انتهاء العمليات العسكرية. عاد إليّ مرتبي كاملا من جهة عملي، وشعرت بالراحة من أجل أسرتي والبيت. كنا نريد مواجهة العدو، وتنتهي حالة ما بين الحرب والسلم، التي لا يعرف أحد فيها هل نحن في قتال أو سلام.
في إحدى الإجازات قالت لي أمي:
– وجدت لك بنت حلال، وحالهم مثل حالنا، وسترضى بالقليل..
– من هي يا أمي؟
حين ذكرت لي اسمها، لم أتمالك نفسي، وقلت لها في لغة خشنة لأول مرة:
– لن أتزوج إلا بعد انتهاء التجنيد!!
خرجت من البيت وفي رأسي عاصفة، ومضيت أهيم على وجهي في القرية حتى أدركني أذان المغرب، فتوضأت وصليت، ودعوت ربي أن تقترب ساعة الصفر، وننتصر ونحرر أراضينا. وأجد عروسا بنت حلال غير التي رشحتها أمي. مشيت وحدي بعد الصلاة، ذهبت إلى الحقول والظلام يرخي سدوله. تذكرت موّالا سمعته قبل مدة، يردده مطرب شعبي في إحدى المناسبات:
يا نازل الصاغة يا تشتري دهب يا بلاش
اوعاك تروح للنحاس وتقول رخيص ببلاش
هقولك نصيحة لله من عندي ببلاش
ان كنت عاوز تصاحب يا تصاحب رجال يا بلاش
صاحب الأصيل وقليل الأصل سيبه
لو كان يسوى أو ميسواش
عدت مع العشاء لأداء الصلاة، رأيت سعد حلاوة في آخر الصف، وبعد انتهاء الصلاة لاحظ وجومي، فباغتني:
– يبدو أنك لم تتعش الليلة؟ أو إن أم سيد لم تطبخ الليلة؟
كان يحاول أن يجرني إلى الكلام الذي كنت عازفا عنه، اغتصبت ابتسامة باهتة لم تظهر ملامحها في ضوء المسجد الخافت، وقلت:
– ليست لدي رغبة في تناول شيء هذا المساء!
كنا نمضي للخروج من باب المسجد، ونتجه نحو الحقول، ولفنا الصمت فترة غير قصيرة، أعلم أنه مشغول بأحوال النكسة أو الوكسة وتجلياتها. كان يتحدث كثيرا عن جونار يارنج، ومبادرة روجرز، والصراع بيننا وبين العدو حول بناء حائط الصواريخ. العدو لا يتوقف عن قصف العمال والعسكريين في القواعد التي ينشئها الجيش، وهؤلاء يواجهون المخاطر ويستبسلون في البناء. كل قاعدة للصواريخ توفر دماء كثيرة من أبناء شعبنا كما يقول سعد، وتذكرت أننا في مرحلة التدريب كنا نردد : نقطة عرق توفر نقطة دم. أوشكت أن أقول لسعد سبب غضبي الذي انتهى إلى الوجوم، ولكنني تراجعت حين أخبرني أن إشارة من المركز وصلت إلى العمدة حفناوي تفيد أن اثنين من شباب أهل القرية استشهدا في الخطوط الأمامية، وأن العمدة يتكتم الخبر حتى يقترب وصول الجثتين مع حرس الشرف، ويهيئ الأسرتين لاستقبال الشهيدين بما يليق!
قلت بصوت هامس: إنا لله وإنا إليه راجعون، ورأيت أن الحديث عن الزواج والمستقبل لا محل له في وداع الشهداء!