إذا كانت معاناة عموم الفلسطينيين في قطاع غزة تفوق أي وصف يمكن التعبير عنه، فإن معاناة النساء بالخصوص هي الأقسى على الإطلاق، إذ يتعرضن لكل لأشكال متعددة من العنف والانتهاكات من العدوان «الإسرائيلي»، إلى جانب حالة انكشاف فاضحة لمواقف منظمات حقوق المرأة الدولية، التي لطالما رفعت شعارات مكافحة اضطهاد المرأة في البلدان العربية والإسلامية، وإذا بأغلبها يتبنى صمتاً مطبقاً أمام أكبر انتهاك جماعي بحق النساء منذ عقود.
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 690 ألف امرأة وفتاة حرمت في فترة الحيض من الحصول على منتجات النظافة الخاصة بالدورة الشهرية، إلا بشكل محدود، وفقاً لصندوق الأمم المتحدة للسكان، فيما أورد بيان للمركز الإعلامي الحكومي في غزة، أن 355 ألف حالة بين 1.8 مليون نازح داخل مراكز النزوح تم توثيق إصاباتها بأمراض معدية، ثلثاها تقريباً لنساء.
كما تعاني النساء والفتيات في غزة من مستويات غير مسبوقة من عنف العدوان «الإسرائيلي» نفسه؛ ما يجعل هذه البقعة المحاصرة واحدة من أخطر الأماكن في العالم بالنسبة للمرأة في الوقت الحالي، بحسب توصيف مؤسسة «أكشين إيد» الدولية، وهي واحدة من المؤسسات الدولية القليلة التي سلطت الضوء على الانتهاكات البشعة بحق الفلسطينيات، لا سيما في غزة.
ويشير بيان صادر عن المؤسسة أن العالم الغربي نظم حملة لمدة 16 يومًا من النشاط المناهضة لما يسمى «العنف القائم على النوع الاجتماعي»، في ديسمبر الماضي، بينما تتعرض النساء والفتيات في غزة للقتل والإصابة بمعدلات مروعة، مع حرمانهن من التمتع بحقوقهن الأساسية في الغذاء والماء والرعاية الصحية يوميًا، ويتعرضن لضغط نفسي هائل وصدمات بعد 3 أشهر من العيش في رعب.
وترسم أرقام المؤسسة ذاتها صورة صارخة ومروعة، إذ يتم قتل اثنتين من الأمهات في غزة كل ساعة، و7 نساء كل ساعتين، وجرى إحصاء قتل حوالي 14 ألف امرأة منذ 7 أكتوبر الماضي، إذ يمثلن، مع الأطفال، حوالي 70% من إجمالي عدد شهداء وجرحى العدوان «الإسرائيلي»، بحسب الإحصاء الحكومي في القطاع.
ويعني ذلك أن كل امرأة وفتاة في غزة فقدت شخصًا ما قريباً لها، سواء كان طفلها أو زوجها أو والديها أو شقيقها أو قريبها أو جارها أو إحدى صديقاتها، فضلاً عن معاناة خاصة للحوامل منهن، التي يبلغ عددهن 5 آلاف امرأة.
ووفق الإحصاء الحكومي في القطاع، فإن 180 امرأة من الحوامل يضعن مولودهن يومياً، ويتعرضن لخطر كبير جراء الولادة دون رعاية طبية كافية، ويشمل ذلك الخضوع للعمليات القيصرية والعمليات الطارئة دون تعقيم أو تخدير أو مسكنات.
وحذّرت منظمة الأمم المتحدة للأمومة والطفولة (يونيسف)، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، ومنظمة الصحة العالمية، من تعطل الخدمات الصحية للأمهات والأطفال حديثي الولادة، بسبب عمليات القصف المستمرة، وتضرر المرافق الصحية أو توقفها عن العمل، حيث يوجد في قطاع غزة نحو 50 ألف امرأة حامل، يفتقدن للرعاية الصحية اللازمة.
وتوقعت الوكالات الثلاث، في تقرير مشترك، أن ترتفع وفيات الأمهات في غزة، كما حذرت من الآثار النفسية الناجمة عن الحرب، وما لها من عواقب مباشرة على الصحة الإنجابية، بما في ذلك ارتفاع حالات الإجهاض والولادات المبكرة، الناجمة عن التوتر والخوف.
وفضلاً عن ذلك، أصبحت أكثر من 800 ألف امرأة في غزة بلا مأوى منذ بداية الحرب، وبعضهن جرى تهجيرهن من منازلهن، ثم من منازل أقاربهن، ويعيش العديد منهن حالياً في مرافق مكتظة للغاية، مثل مدارس الإيواء، ولا يوجد في كثير منها سوى مكان واحد للاستحمام لكل 700 شخص ومرحاض واحد لكل 150 شخصًا.
ولا يتوفر لأغلب النازحات سوى القليل من الماء للاغتسال، إذا وصلن له أصلاً، فضلاً عن غياب الخصوصية والكثير من وسائل النظافة والعناية، أهمها المستلزمات الخاصة بالدورة الشهرية.
وإزاء ذلك، تشير «أكشن إيد» إلى الأضرار النفسية الخطيرة التي يسببها استمرار العدوان «الإسرائيلي» للنساء والفتيات في غزة، مشيرة إلى أن معاناتهن كانت قائمة حتى قبل الحرب الحالية، إذ تعرض العديد منهن لانتهاكات متكررة لحقوق الإنسان بسبب الحصار «الإسرائيلي» والاعتداءات السابقة للاحتلال الذي سبق أن قصف غزة في 6 عمليات عسكرية سابقة (من عام 2009 إلى 2022م)، ما ترك النساء في مواجهة ضائقة نفسية شديدة.
وفي السياق، أورد بيان مشترك لمؤسسات حقوقية فلسطينية، مثل المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، ومركز الميزان، ومؤسسة الحق، إلى أن الإخفاء القسري لمئات المعتقلين من قطاع غزة داخل معتقلات «إسرائيل» في النقب، شمل عشرات النساء، وطالبت بإنهاء حالة الإخفاء القسري التي تفرضها سلطات الاحتلال «الإسرائيلية»، ويتعرض لها مئات المعتقلين الفلسطينيين من سكان قطاع غزة.
وبحسب تقرير لـ«مؤسسة الأسرى والمحررين الفلسطينيين» (غير حكومية)، فإن معاناة الاعتقال والإخفاء القسري تمتد إلى الضفة الغربية أيضاً، إذ اعتقلت السلطات «الإسرائيلية» أكثر من 190 امرأة في عام 2023م.
ورغم كل هذه المعاناة، بدت المواقف الدولية، خاصة الغربية منها، منكشفة أمام معاناة النساء في غزة، إذ لم يكتف بعضها بالصمت، بل بلغ الانحياز الصهيوني ببعضها إلى حد قطع التمويل عن المنظمات والمؤسسات التي تسلط الضوء على معاناة المرأة الفلسطينية.
ومثلت الحكومة الألمانية قمة التعسف في هذا الصدد، إذ قررت قطع تمويل مشروع مناهضة الاتجار بالنساء، الذي تنفذه مؤسسة قضايا المرأة المصرية، بعد توقيع رئيسة مجلس أمناء المؤسسة، المحامية عزة سليمان، على بيان يدعو إلى وقف الحرب على غزة ومقاطعة البضائع «الإسرائيلية» وقطع العلاقات الدبلوماسية معها.
«لقد أظهرت لنا غزة أسوأ ما في الإنسانية»، هكذا علق نائب الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن جريفث، لكن غلاف تصريحه الدبلوماسي تنقصه الصراحة، فما انكشف هو زيف الادعاء الغربي، وليس غيره.