مصطفى رضا
وحدنا- أنا وسعد حلاوة- لم نجنّد في الجيش بعد “الوكسة”، هو لأنه الابن الأكبر الذي يعول إخوته، وأنا وحيد والدي. كان هناك توجه بتجنيد كل الشبان الذين يستطيعون حمل السلاح حتى سن الثلاثين. ألغيت التأجيلات التي كانت تمنح لبعض الشباب بسبب الاحتياج إليهم في جهات عملهم، كما ألغي إعفاء من لم يصبه الدور، أبي المعلم في مدرسة القرية الابتدائية علمني وزملائي في الفصل ومنهم سعد حلاوة، أن الجهاد لتحرير الأوطان من الأعداء فرض، ويجب على جميع أفراد الشعب أن يشاركوا في الجهاد، فقدّرتُ ما تفعله الدولة لتجنيد الشباب والشعب.. المجاهد الحق كل من يحمل السلاح، ومن يجهّز عتاد الحرب، ومن يعمل في الإنتاج، ومن يدرس في بيوت العلم، ومن يخدم الجمهور في الصحة والزراعة والري والمواصلات.. المهم أن يكون الشعب المجاهد يدًا واحدة، ليتحقق النصر في الجبهة.
حين رأيت شوارع القرية خالية من الشباب إلا من قلة قليلة بينهم أنا وسعد، قلت له:
– كنت أتمنى أن أكون ضمن المجنّدين في الجيش من أجل التحرير.
قال:
– يمكنك أن تسهم بما تستطيع من عمل في الجبهة الداخلية وأن تخدم المقاتلين في الجبهة الأمامية.
– قلبي مع جميع الجنود “الغلابة” الذين تركوا أعمالهم وعائلاتهم وانخرطوا في صفوف القوات المدافعة عن البلاد.
– قلوبنا جميعًا معهم. حفظهم الله، ولكن الفساد يعطلنا كثيرًا، والاستبداد يعطلنا أكثر، وهناك من يرى أننا ندافع عن الحكام المستبدين وليس الوطن!
سعد صديق طيب، ويكاد فكرنا أن يكون مشتركًا، آثر البقاء لرعاية الأرض والإخوة، وترك الجامعة، أما أنا فقد تخرجت من كلية الآداب بتشجيع من أبي، تخصصت في الجغرافيا، وبالطبع أفهم جيدًا في الجغرافيا السياسية، ولعل هذا ما يجعلني أتناغم مع سعد في تفسير القضايا الدولية والإقليمية، قلت له ذات مرة عقب “الوكسة” بشهور:
– هل يحقق جونار يارنج نتيجة ملموسة في رحلاته المكوكية بين القاهرة وتل أبيب؟
رد علىّ ساخرًا:
– إنه مجرد بوسطجي!
– ما معنى ذلك؟
– من يملك القوة هو الذي يفرض شروطه يا عزيزي!
– نحن أصحاب حق، والقرارات الدولية تؤيدنا.
– بلّ الحق واشرب مياهه، الأقوياء يفرضون شروطهم!
وعندما تم بناء حائط الصواريخ، قال لي:
– الآن يقبل العدوّ وقف إطلاق النار، ويتحصّن خلف خط بارليف.
***
في اُثناء الدراسة الجامعية عرفت النوادي الأدبية والثقافية، وكنت مولعًا بحضور الندوات والمحاضرات العامة، وتعرفت على عدد من كبار الأدباء والمثقفين وصغارهم، وصرت صديقًا لبعضهم، أزورهم في بيوتهم أو صحفهم ومجلاتهم التي يعملون بها. كنت أصطحب سعدًا وسيد السمكري أحيانًا إلى هذه اللقاءات..
قلت له بعد حضور إحدى الندوات التي أتخمتنا بأحاديث معادة مكرورة:
– أرشحك يا سعد لتكون واحدًا من هؤلاء المثقفين بل من أفضلهم.
نظر إلى وابتسم، وقال بصوت حاد كالسكين:
– ماذا تجدي ثقافة أمثال هؤلاء في بلد مهزوم ومقموع؟
أدهشتني الإجابة، المثقفون الذين يثرثرون كثيرًا يحملون وجهين، وجه مع السلطة الباطشة، يجمّلها ويزيّنها ويضعها في قمة الديمقراطية والولاء للشعب، وآخر يظهر في الجلسات الخاصة ويصدر كلامًا آخر عن القمع والاستبداد والاعتقالات والحيطان التي لها آذان.. سعد له وجه واحد، إذا لم يستطع أن ينتقد يسكت حتى لا يذهب وراء الشمس، فما أكثر المثقفين المخبرين أحدهم يلازم مدير مكتب وزير الداخلية كظله، ويظهر في وسائل الإعلام بوصفه مناضلا ومكافحا وتقدميا، ويقول زجلا في هجاء الزمان والناس. سعد يلزم الصمت، كي لا يصدر عنه ما يشين، أو يسجل عليه أنه مالأ النظام يوما ولو بكلمة. في سهرات الحقول بالليالي الصيفية، كان يقول لنا:
– المستبدون لا يصلحون للسياسة، مجالهم هو الأمر والنهي دون تفكير. السياسة تحتاج إلى عقول تفكر في الغد، أما هؤلاء فينظرون إلى اللحظة الراهنة، ويرون أن مناقشتهم، والاختلاف معهم في الرأي جريمة تمس كرامتهم. ويعني عدم تنفيذ الأوامر. من يريد العمل بالسياسة لا بد أن يدر س الحياة المدنية جيدا.
– معظم الساسة اليهود كانوا عساكر وقادة ميدانين. وهم ناجحون في سياستهم المحلية والدولية، ويحققون للمحتلين انتصارات هائلة ومكاسب ضخمة.
– صحيح أن معظمهم عساكر سابقون، لكنهم يتزودون بالعلم والمعرفة في شتى المجالات. ويتقنون فن الكرّ والفرّ في التعامل السياسي، سواء فيما بينهم أو مع الخارج، الأصدقاء أو الأعداء، أما عندنا فالمسألة عندنا شيء آخر. لا علم ولا معرفة. مسألة كرامة شخصية وليس وطنية!
قلت له مازحا:
– ماذا لو جعلناك رئيسا للجمهورية؟
ابتسم ابتسامة خافتة، وقال من فوره:
– أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!
وراح يقرأ بصوت جميل، وأنا أصغي متمعّنا في الآيات الكريمة التي خطرت على ذهنه وأخذ يتلوها متماهيا مع معانيها ودلالتها:” وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ، قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ، قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ، قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ، قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ، وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ، قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ، فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ، قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ” صدق الله العظيم. (الأنبياء: 51-67).
بعد أن ختم التلاوة، عدت به إلى سؤالي الساخر عن الرئاسة وإجابته عليه:
– لماذا تستعيذ بالله من أكبر منصب في البلاد؟
قال بتؤدة:
– كنت أود أن أكون أستاذا جامعيا مثل كبار الأساتذة الذين غيّروا المجتمع، وللأسف نحن شعوب تعودت على عبادة الحاكم بحكم تراكمات القهر والاستعباد، إنهم يضعون الحاكم أحيانًا مكان الإله الذي يجب أن يصنع لها كل شيء، ثم يتلذّذون بالشكوى من ظلمه وجبروته.
– ولكنك لن تظلم أحدًا يا سعد!
ضحك هذه المرة بصوت عال:
– العبودية في بلادنا ميراث يا مصطفى! ومن الصعب أن تقنع الشعب بعشق الحرية، والمبادرة إلى العمل والمشاركة في مصير البلاد.
انبريت له وكان ضوء القمر في الليلة الصيفية ساطعًا، وقلت:
– هذه المرة لست معك يا سعد، ألم تقرأ كيف كانت بلادنا في أيام الملكية التي يسمّونها العهد البائد؟ كانت الأحزاب تتحرك في الشارع، وكانت الصحافة تسقط وزارة، وكان الوفد والأحرار والإخوان والجمعيات الأهلية يعملون ويشاركون في خدمة الشعب ومواجهة الاستعمار والقصر والفقر والمرض والجهل والفساد… وكان لدينا مجلس نيابي يحافظ على الدستور، وهدّد العقاد من خلاله بالتصدي لأكبر رأس إذا حاولت المساس به.
قال سعد بلهجة الحكيم:
– وهذا يؤيد ما أقوله لك، الملوك الأحرار لا يسمحون بأحزاب حقيقية ولا صحافة حرة، ولا مجالس نيابية فعالة ولا جمعيات أهلية نشطة، ويقلعون كل نبتة خضراء تنشد الحرية والعدالة.. ترسبت العبودية في أعماق شعبنا حتى في الحب.. لا تكافؤ في الحب، ولكن عبودية وخضوع.. سمعت أم كلثوم وهي تقول: “ويعجبني خضوعي إليه وأسامحه.. وهو ظالمني؟”. جمال الدين الأفغاني له مقولة خطيرة: “أمة تطعن حاكمها سرًا وتعبده جهرًا لا تستحق الحياة”.
– ولكن الشيوعيين وأشباههم يرون أن تحرر الشعب ممكن، ويؤمنون أن مساندة نظام الملوك الأحرار يمكن أن ينتج شعبًا فاعلًا يعيش بالعدالة الاجتماعية والديمقراطية والتقدمية!
صمت لوقت غير قصير، وراح ينظر إلى القمر المنير في صفحة السماء الزرقاء، ويقلب بصره بين الحقول، ثم همس:
– الشيوعيون وأشباههم أبناء هنري كورييل!
وعاد إلى صمته من جديد..
قلت له متسائلًا:
– أبناء من؟
– هنري كورييل!
ضحكت، وقلت ساخرًا:
– ماذا يبيع هذا الهنري؟
قال مباغتًا:
– أشتاق إلى الذرة المشوية، هل تستطيع أن تنزل معي إلى قلب الحقل، لنأتي ببعض الكيزان الطرية ونشويها؟ هناك تحت الشجرة القريبة بعض الحطب الجاف، نشعله ونشوي عليه.
نهضنا، وابتلعنا ظلام الذرة، وراح كل منا يملأ حجره بما استطاع من كيزان.
***
في أثناء عودتنا بعد السهرة، نحمل بقايا الذرة المشوية، لم أشأ أسأله عن هنري فقد كان هناك ما يشغلني داخليًا ويستولي على وجداني، قلت لسعد:
– ما رأيك في الزواج؟
– خير وبركة.
– أبي وأمي يلحان علىّ، والأمور ميسرة لتكاليف الزواج، وأتقاضى مرتبًا لا بأس به من وظيفتي.
– هل وجدت العروس؟
تلعثمت وأنا أبحث عن صيغة أعبر بها عن الفتاة التي أهواها. فاستحثني سعد لأخبره باسمها، فتمتمت:
– إنها ليست من هنا.
– من أين؟
– من القاهرة!
– كيف عرفتها؟
سكتُّ قليلا، ثم قلت بصوت أقرب إلى الهمس:
– في النادي الثقافي.
– ما اسمها؟
– ثريا العبد!
لم يعلق سعد، يبدو أن الاسم أزعجه، أخبرني فيما بعد بما قاله عنها بعض رفاقها في النادي، وما رآه منها، ثريا فلاحة من الشرقية، التحقت بكلية التجارة، وشغلها طموح أن تكون من الأسماء الرنانة في عالم الثقافة والصحافة والأدب، دفعها تفوقها في دراستها وتخرجها بتقدير عال، أن تمارس الكتابة وتلتحق بقطار الصحافة دون أن تلقي بالًا لتخصصها في المحاسبة، ورأت في الندوات التي يحضرها كبار الأدباء والصحفيين فرصة ذهبية لتقدم نفسها إليهم، وتعرض عليهم بعض قصصها وأشعارها، تشعلها شهوة الشهرة والتألق، وساعدها على ذلك ما تتمتع من صورة أنثوية جذابة، قوام فارع، وشعر ناعم أسود فاحم، ووجه يضيء بالرغبة ويشعّ بالهوى، فيه عينان تبرقان بالطموح والمعابثة، وحين تجلس وقد وضعت ساقًا على ساق يكشف الميني جيب مساحات كبيرة مثيرة من فخذيها تجذب إليها عيون الشباب في النادي وتسيل لعابهم! استطاعت بعد شهور أن تصدر مجموعة قصصية، تناولتها معظم الصحف الكبرى في صفحاتها الثقافية، بالتعريف والأخبار المتكررة، والحوارات الطويلة والقصيرة مع المؤلفة وصورها المعبرة عن أنوثتها أكثر من موهبتها الأدبية، وأضحى اسمها يتردد في الإذاعة بالتبعية، ومن ثم عرفت طريقها إلى شاشة التلفزيون، وذكّرني سعد أنها كانت تبتسم لي ونحن في النادي، وهذا صحيح فقد كانت تبتسم ابتسامة مصنوعة، وتسألني:
– هل قرأت مجموعتي؟
كنت أذوب عشقًا وغرامًا كلما طالعتُ محياها، وإن لم أستطع الإفصاح عن مشاعري، تبهرني كلماتها وتسحرني عيناها، ويأسرني تكوينها، ألست ذكرًا؟ والذكر في عمر الشباب تشده الأنثى وتجذبه؟ ولكني أخاف الله! تربيت في بيتنا على أن الديّان لا يموت، وكما تدين تدان، أريد الحلال المشروع، تمنيت أن تكون رفيقة عمري، وأن تنام معي على وسادة واحدة.. ولكن أنّى لى ذلك؟ سلسلة من يهتمون بها طويلة وخاصة من عجائز الصحافة والأدب، وبعضهم يدعو خاصته للغداء أو العشاء وثريا على رأسهم، فالدعوات لا تكون إلا من أجلها، ولا يحلو تناول الطعام إلا في وجودها، ولا السهر إلا بصحبتها، لدرجة أن عددًا منهم فتش عن مواهبه النقدية المطمورة فكتب الدراسات المطولة عن مجموعتها القصصية التي لا تحمل قيمة عالية من ناحية المضمون أو الشكل أو اللغة أو التصوير كما أسر إلىّ عدد من النقاد الحقيقيين، إني مفتون بها، ولكن كيف الوصول إليها؟
سألت صاحبي سعدًا وهو يراوغني بعدم إبداء رأيه حول الزواج منها، إن كان سمع عنها شيئا لا يرضيني؟
قال لي:
– المهم أن يكون هناك تفاهم بينكما.
لا بد أنه سمع أشياء لا يصح أن تقال، وإلا ما معنى تهربه من الإجابة عن سؤالي عنها؟ وما تفسير عدم حماسته للمشروع؟ ولماذا يقف موقفًا باردًا من الأمر، وهو الذي يكلمني عادة بحرارة في أمور أخرى بالرفض أو القبول، أهل القرية الذين تربّوا على الطهارة والأخلاق لا يقبلون من المرأة إلا أن تكون نموذجًا للاستقامة، وصاحبي فيما يبدو على يقين أن هناك أشياء تمنعه من الفرح والابتهاج لرغبتي الجارفة والحارقة في الزواج من ثريا العبد!،
أعلم أن سعدًا لا يستريح أبدا لتجمعات هؤلاء المثقفين، وكان يردّد دائما: هؤلاء لهم وجهان. وكنت أسأله عن ذلك فيقول: الوجه الأول وجه المخلصين المنحازين إلى الوطن، والوجه الآخر السبوبة. أسأله:
– ما معنى السبوبة؟
– الحصول على بعض المكاسب الرخيصة مقابل نفاق المسئولين في الوزارة أو الأجهزة الثقافية، والتطوع بكتابة التقارير الظالمة عن زملائهم: هذا شيوعي، وهذا إخواني، وذاك وفدي، هذا معارض للنظام، وذاك يذهب إلى السفارة الأمريكية، وذلك يتعاطف مع الرجعيين من الإقطاعيين والرأسماليين… كل ذلك من أجل مكافأة موضوع رديء تنشره إحدى المجلات الحكومية، أو مشاركة في مؤتمر كله لغو وثرثرة لا يسفر عن نتائج معرفية أو فنية ذات قيمة، أو تذكرة سفر إلى المهارج التي تقيمها بعض الدول المستبدة لتمجيد الحاكم وتأليهه، أو تسوّل منحة أو جائزة غير مستحقة…
أشعر أن سعدًا غارق في الحرج، ماذا يقول لي؟ هل يصارحني بالحقيقة المرة التي لا أعرفها أم يلزم الصمت حتى تقع الفأس في الرأس، وأحقق رغبتي في الاقتران بثريا العبد؟ لا تجعلني يا صاحبي أحصد خرط القتاد كما يقال، أو المرارة والأشواك؟
آثر سعد أن يقنعني بتأجيل الأمر، حتى يقوم والداي بالتحري عن العروس وأهلها، ويفكران في طريقة العيش ومكان الإقامة بعد الزواج، وغير ذلك من متطلبات بناء أسرة جديدة..
***
يحيرني صديقي سعد حلاوة، تارة يكون مثل النهر صافيًا رقراقًا يكشف عن أعماقه البعيدة، وأخرى يكون مثل الضباب الذي يملأ سماء قريتنا في أيام طوبة وأمشير والحسوم، في الحالة الأولى يكون راضيًا عن نفسه ومن حوله، وفي الأخرى يكون هناك ما يشغله، ويقلقه ويثير الاضطراب في حياته، لم يُجِب أبدا بإجابة مفيدة حول حقيقة ثريا العبد، وقبلتُ وجهة نظره بالتأجيل مع شدة شوقي إليها، وضمها إلى مملكتي، وبدا لي أن أسأله عن هنري كورييل الذي ذكره لي ذات مرة، وما إن طلبت منه أن يحدثني عنه، حتى انطلق قائلًا:
– الأمر ببساطة، أن هذا الرجل يهودي متعصب للكيان الصهيوني، استوطن مع والده المرابي الذي جاء مصر قادمًا من إيطاليا، وأسس الأحزاب الشيوعية في مصر والبلاد العربية.
– ما المشكل في ذلك؟
– المشكل أنها أحزاب تعادي الدين والأخلاق التي تربينا عليها، وترفع شعارات النضال من أجل الكادحين، ومحاربة الامبريالية والرأسمالية والإقطاع، وفي الوقت نفسه تؤيد قيام الكيان الصهيوني بمساعدة الإمبريالية على حساب الشعب الفلسطيني، وحقه في الحياة.
– لعل لهم أسبابًا مقنعة في موقفهم هذا؟
– كلا! إنهم يعللون ذلك بسبب خائب، وهو حتمية تضامن الطبقة العاملة العربية مع الطبقة العاملة اليهودية في الكيان الصهيوني!
حين يتكلم سعد عن فلسطين، فهو لا يتحدث عن موضوع احتلال ومقاومة، ولكنه يراه عقيدة وشرفًا وتاريخًا ومستقبلًا، وحلمًا يجمع العرب والمسلمين والإنسانية، في منظومة واحدة تبني وتنتج وتحمي المظلومين!
قلت لسعد لألمس وترًا حساسًا لديه:
– لعلك ساخط عليهم بسبب حديثهم عن كسر التابوهات.
نظر إلى وكأنه يتهمني بالانحياز إليهم:
– إن كسر التابوهات أو المقدسات الثلاثة، وهي الدين والجنس والسياسة، حديث يلوكه الشيوعيون وأمثالهم في مناقشاتهم وثرثراتهم التي لا تتوقف، ولأنهم لا يستطيعون الاقتراب من تابو السياسة، فهم يحاربون الإسلام، ويستحلون المرأة دون زواج.
قلت له مندهشًا:
– إنهم يتحدثون بصورة معقولة عن قضايا لا يختلف عليها أحد، صحيح أنهم لا يصلون ولا يصومون، ولكنهم يتكلمون عن حقوق الفقراء والكادحين والظلم الاجتماعي والحكومات الفاسدة، ويتقاسمون السندوتشات فيما بينهم، ورأيتهم يتشاركون في السيجارة، ولا يقولون إنهم شيوعيون.
ابتسم سعد ساخرًا:
– صدق من قال إنهم يسبّون الحكومة في النهار، وينامون في سريرها بالليل، يا أخي لا تجعل كلامهم يأخذك بعيدًا عن الواقع، إنهم أنانيون فيما بينهم، ويتهم بعضهم بعضًا بالعمل لحساب جهات الأمن. هل رأيتهم وهم يتشاجرون في النادي؟ كل منهم يجعل الآخر خائنا، ويسرع قبله ليظفر بوظيفة، أو يسافر إلى مؤتمر، أو ينال عشيقة صاحبه، …
– إنك تبالغ يا سعد! أنت من عائلة العمدة، والعمد ينتمون إلى طبقة الإقطاعيين، وهؤلاء يكرهون الثورة والشيوعية.
ضحك سعد ضحكة قصيرة، وأوشك أن يقول شيئًا، ولكنه تراجع وسكت.
***
صارت ثريا العبد مشهورة في الوسط الأدبي والثقافي، يخطب ودها رؤساء التحرير، والشعراء والكتاب وخاصة الكهول والعجائز، وهي تخطر بهمّة ودلال في المحافل الأدبية والثقافية، وأنا أتحرق شوقًا لمفاتحتها في أمر الزواج، لكني أتهيب الموقف، وكلما اقتربت من مفاتحتها تراجعت ثانية. لا أدري لماذا؟ هل أنا جبان؟ أم إن شيئًا بداخلي يمنعني، مع أن الدماء الحارة في عروقي تناديها بكل قوة؟ لا أدري تمامًا، إنها تبتسم لي، وتسألني أحيانًا عما أكتب، فأقول لها: إني محبّ هاوِ في عالم الأدب والثقافة ليس أكثر، فتضحك ضحكة ذات مغزى، وتقول لي:
– إنك كاتب كبير، ولكنك تتواضع.
ثم تتركني وتمضي لمناغاة آخرين في صالة النادي الفسيحة، بينما سؤالها يهزني من أعماقي، كما هزني نبأ اختيارها لتكتب عمودًا يوميًا في جريدة “الشرق الجديد” الشهيرة، وتساءلت فيما بيني وبين نفسي:” كيف لفتاة محدودة الثقافة، وفي مقتبل عمرها تكتب عمودًا يوميًا يفترض أن يحمل تجارب إنسان عرك الحياة، ويقدم خبرته الإنسانية لتفيد منها الأجيال الجديدة؟ يبدو أن لرؤساء التحرير رأي آخر، ولعل لديها ما تفاجئنا به في عمودها المنتظر.. لم ألتفت إلى ما قاله بعض رواد النادي الثقافي عن توظيف بعض المحرّرين الشبان لكتابة هذا العمود تحت دعوى تصحيح الأخطاء النحوية أو إعادة صياغة بعض العبارات التي قد تسبب مشكلات مع الرقابة. المهمة الحقيقية لهؤلاء المحرّرين هي باختصار كتابة العمود ووضع اسم ثريا في نهايته!
***
في النادي الثقافي اصطفيتُ شخصًا هادئًا رزينًا، وحكيت له عن رغبتي في الاقتران بثريا العبد، نظر إلى نظرة غريبة، وقال لي:
– يبدو أنك فلاح ساذج، ألا تعلم بقصة الضباب؟ ثم ضحك ضحكة قصيرة..
لم أدرك المغزى في الحال، ولكني تذكرت قصة الضباب التي حكاها الرئيس الجديد حين طالبه الناس بتحرير سيناء فذكر لهم قصة الضباب الذي صنعته حرب الهند مع باكستان، وتحول الأمر إلى نكتة يسرّي بها الناس عن أنفسهم وعن هزيمتهم، لم أستطع أن أفهم لماذا كان الضباب مرتبطًا برغبتي في الزواج من ثريا العبد، ولكني أخيرًا فهمت أن هناك شيئًا ما لم يصرح به الزميل، ولم أشأ أن أسأله، ويكفي أنه قال: إنك فلاح ساذج، السذاجة قرين الغفلة وعدم الفهم، وخجلت أن أنقل ما جرى لسعد، وشغلتنا أمور خاصة وعامة أبرزها ما ترسب في أعماق الناس أن القتال لن يحدث، خاصة بعد ترحيل المستشارين والخبراء العسكريين الروس في خطوة لم يتوقعها أحد، ولم يدرك دلالتها أحد! كان هناك استرخاء على الجبهة شعر به الناس جميعًا، والجنود يملئون القطارات والمواصلات في إجازات متتابعة مما يعني أن الجو هادئ وساكن، ولا يشير إلى قتال، بل إن بعض الضباط ذهبوا إلى عمرة رمضان في مشهد علني غطّته الصحف الكبرى، وتكاثرت النكات التي تتناول الرئيس وخطبه التي خلت من الحدة والحماسة!
آلمني أن يصفني الصديق الذي توسمت فيه المروءة بالفلاح الساذج، صحيح لم يقصد انتقاصًا من قدري أو قيمتي، ولكني يعبر عن عدم فهمي للحياة، وهو ما ينبغي أن أتنبه إليه، وأردت أن أخبر سعدًا بذلك، ولكني تراجعت، وعدلت عن إخباره بما كان، ورحت أدقق في موضوع الضباب الذي يربط بين ما قاله الرئيس، وما قاله الصديق، ماذا يعني الضباب بالنسبة لثريا العبد التي اشتهرت وانطلقت، وراح كبار الكتاب يتبنّون كتاباتها المتواضعة ويحتفون بها في صورة غريبة، بينما هناك كتاب موهوبون حقيقيون، لا يتعطف عليهم الكبار ولا الصغار بنشر خبر في سطرين على عمود في الجريدة اليومية أو المجلة الأسبوعية. ما هي المؤهلات كي يوضع الموهوب الحقيقي في مكانه؟ لدينا حَوَلٌ فكري وثقافي في تقدير الناس، ولدى الآخرين من أعدائنا قدرة على الاعتراف بالكفاءة وتوظيفها في مكانها الصحيح، ولذا ينجحون وينتصرون، هكذا يؤمن سعد حلاوة، ولكني لن أناقشه في ذلك، الذي يشغلني هو الضباب الذي يرتبط بثريا، أما المرتبط بالرئيس فلا يعنيني الآن.
هل من واجبي الآن أن أفسر الضباب مع ثريا أن هنا شيئًا مجهولًا لا أعرفه أنا، ويعرفه صديقي الذي أردت أن يكون وسيطا بيني وبينها، كيف أعلم، وهو يضحك ولا يريد أن يذكر الحقيقة؟
***
بعد أيام سمعت في النادي همسات تدور حول زواج عرفي تم بين رئيس تحرير كبير، وإحدى الأديبات الشابات، الفارق العمري بينهما كبير، والرجل آثر أن يكون الأمر عرفيًا، حتى لا يهتز بيته الأصلي، الذي يضم زوجه بنت العائلة العريقة، وأولاده الشباب، والعروس قبلت العرفي مراعاة للظروف! بقي أن أعرف من هي العروس، ومع أن لدي شعورًا غريبًا بأنها ثريا العبد، فقد تمنيت ألا تكون هي، حمدت الله أنني لم أذكرها أمام والديّ للتحرّي عنها، فإني أخشى عليهما من احتمالات الصدمة، لا تحب أمي أن أكون في موقف المهزوم، أو المخذول، وكذلك أبي وإن لم يفصح عادة عن آرائه. ولسبب لا أذكره سمعت من مجموعة شباب القرية، فايزة عرفان ستتزوج، وأن خطيبها شاب من أسرة فقيرة، وسيقيمان حفلًا كبيرًا بمناسبة الخطوبة (تقديم الشبكة)، أبوها تاجر خردة محظوظ، يملك ثروة لا بأس بها تجعله يفوق كبار الملاك في القرية، وإن كانت النظرة إليه تتسم بالدونية، فالقوم في القرية لهم نظراتهم وتقاليدهم التي يحسبونها بالأصول والفروع، والتاريخ الاجتماعي!
***
في مساء العاشر من رمضان 1993هـ= السادس من أكتوبر 1973م، صدر البيان الأول عن العبور إلى الضفة الشرقية للقناة، تفرغ الناس وهم صائمون للمتابعة، ومحاولة التصديق، فقد يئسوا أن يصدقوا بيانات النظام، وما قيل قبل الهزيمة منذ ست سنوات والانتصارات الوهمية كفيل ألا يصدق أحد ما يقال عن العبور.
الآن يتحسسون الكلمات ويرجعون إلى الإذاعات المعادية ليختبروا الحقيقة، جاء موعد الإفطار وانشغل المصريون عنه، فهم يتابعون العبور الذي قالت عنه إحدى الإذاعات الأجنبية إن الدبابات المصرية تعبر على الجسور الصناعية بصورة أدق من المرور في ميدان التحرير بالقاهرة، بعد صلاة التراويح التي أفعمت بالدعاء للجنود الأبطال، بحثت عن سعد وبعض الشباب، لم أجد أحدًا، كانوا أمامي في الصلاة، ولكنهم ذهبوا.. إلى أين لست أدري!
أخيرًا عثرت عليه في دوار العمدة، مع بعض الشباب، حين رآني سعد قال:
– قررنا أن نتطوع في القتال، ولا عذر لشاب أن يتخلف عن المعركة.
قال عمي العمدة حفناوي حلاوة:
– علينا أن نفكر تفكيرًا عقليًا لا عاطفيًا.
سأله سعد:
– العقل يقول يجب أن نقاتل.
– هذا صحيح، ولكن الجنود يخوضون معركتهم الباسلة، وواجبنا هنا أن ننهض بالجبهة الداخلية، وأولها رعاية أسرهم، والاستعداد لما تطلبه منا قيادة الحرب!
سكت سعد على مضض، وواصل عمي:
– يجب أن نوفر سيارة للمجندين الذين كانوا في إجازات، لتحملهم إلى وحداتهم العسكرية..
وهنا دخل عليهم عنتر الكاشف- مجند قديم كان يقضي إجازته في القرية، فسلم عليهم، وقال لهم:
– لا تشغلوا بالكم، سأسافر مع زملائي إن شاء الله في الفجر، وسنجد تعاونا من أصحاب السيارات لتوصيلنا، إلى الوحدات.
***
أي روح جديدة تلبست هؤلاء السائقين، أي عطر فاح على وجوه الجمهور المسافر، وكل منهم يرحب بالعسكري المجند وهو يقترب من السيارة، ويهتفون: أسرع يا دفعة، إلى أين؟ هذه سيارة القاهرة، وتلك سيارة طنطا اركب ولن تدفع أجرة، وانطلقت السيارات وهي تذيع أغاني النصر السعيد، وعنتر الكاشف يحكي ذات يوم بعد توقف القتال:
– ما زلت أذكر مشاهد عناق زملائي لرؤوس الكباري، ولا أنسى وجوه من صاموا وجرحوا صيامهم بالزلط، العدو الصهيوني يقول عن جنودنا إنهم مجرد عساكر فلاحين يقتلهم الخوف ويعجزهم الجهل، ويطلب أن نفاجئه بالسر العسكري وهو أن معنويات جنودنا سكاكين في صدره، تتحول شجاعتنا إلى مفاجأة تزلزل خطط الصهاينة التي لا تفهم إلا بالأجهزة المعقدة، وتتحصن بمعدات أمريكا!
سعد حلاوة يتحدث إلينا في المساء بعد أيام من الحرب عن الأسرى اليهود المغبرين بالتراب الذين عرضهم التلفزيون، وهم مطأطؤ الرؤوس فوق الصحراء، عساف ياجوري القائد الصهيوني في مقدمة الأسرى، ويتعامل معهم الجيش المصري بأخلاق إنسانية، ويتذكر سعد جريمة روح شاكيد اليهودية الوحشية حيث قامت وحدة يهودية بعد انتهاء حرب يونية 67، بقتل 250 أسيرًا أعزل من جنودنا.. الوحدة المتوحشة، قادها يهودي من أصل عراقي اسمه بنيامين بن إليعازر فقد طارد الكوماندوز المصريين لعدة أيام بواسطة طائرات الهليكوبتر، وحشرهم في مطار العريش يوم 8 حزيران 1967م أمرهم بالنوم داخل حظائر الطائرات بعضهم فوق بعض، وفي الصباح توفي 70 أسيراً من الاختناق وتم دفنهم في حفر داخل المطار. ولم يكتف المتوحش اليهودي بذلك بل طارد نحو 150 من الأسرى المصريين ودهسهم بلا رحمة، وبمجرد استسلامهم قامت الدبابات “الإسرائيلية” بمطاردتهم ودهسهم مثل العصافير». وقال أسير نجا من الموت «في أثناء وجودنا في معسكر بئر السبع، شاهدتهم يقومون بدفن مصابين من الجنود الأسرى وهم أحياء، بعدما يأمرونهم بحفر قبورهم ثم يردمون التراب عليهم».
وأخطر الاعترافات ما تعلق بتجارة الأعضاء، حيث شكّل الأسرى المصريون مستودعاً هائلاً لقطع الغيار البشرية، وكان السماسرة يجنون أرباحاً خيالية من بيع الأعضاء في أوروبا والكيان الصهيوني، كما كان طلبة الطب هناك يتدربون في العمليات الجراحية على هؤلاء الأسرى، وقد اعترف أحد التجار، وهو يهودي يعيش في باريس، «لقد رأيت بعيني عشرات من الأسرى وقد شقّت بطونهم أمامي بأيدي طلبة الطب الصغار، واقشعرّ بدني لهذه الطريقة البشعة».
سعد يكشف عن تحضر المصريين ووحشية اليهود الغزاة، ويرى أن حرب رمضان كانت ضرورة لتعريف العالم بقدراتنا وإنسانيتنا.
حين حضر الأستاذ عنتر الكاشف بعد وقف القتال، تحدث طويلًا عن بطولات واحد من القادة وجنوده الفلاحين البسطاء اسمه إبراهيم الرفاعي.. يقول عنتر:
كان رجلًا مجنونًا رسميًا..
سأله قائده في مرة: ” هل أنت يا بنى داخل مسابقة مع الجيش من فيكم يقتل أكثر؟”
يوم زواجه قال أحد أفراد دفعته للعروس:
” اشبعي من زوجك لأنه ينوي ألا يطيل معنا “.
– هذا الرجل قبل أن يتم 40 سنة حصل على نوط الشجاعة 3 مرات ونجمة سيناء مرتين ونوط الترقية الاستثنائية ونوط الواجب العسكري..
أسس المجموعة 39 قتال “صاعقه” التابعة للمخابرات الحربية المصرية..
دمر مخازن السلاح والذخيرة في 67 كي لا تقع في أيدي العدو..
طلبه الفريق عبد المنعم رياض رئيس الأركان، وقال له: يا إبراهيم اليهود حصلوا على صواريخ ” أرض- أرض” جديدة.. نريد واحدًا منها ندرسه.
عبر إبراهيم القناة مع رجاله وأحضر ثلاثة صواريخ، وأسر الملازم “دانى شمعون” بطل المصارعة اليهودي..
قال الفريق عبد المنعم رياض وهو يضحك:
– ألم أطلب صاروخًا واحدًا فقط؟
رد إبراهيم قائلًا:
– يا فندم هناك احتمال أن نمتحن فيهم قريبًا، قلت: أحضر زيادة من أجل المراجعة النهائية!
عندما استشهد الفريق عبد المنعم رياض 9 مارس 1969 عبر إبراهيم في اليوم التالي برجاله واتجه للموقع الذي انطلقت منه الصواريخ (المعدية 6) وقتل 44 ضابطًا وجنديًا يهوديًا، ودمر الموقع بالكامل وحرق العلم الصهيوني ورفع العلم المصري على أنقاض الموقع.. فما كان من العدو إلا تقديم احتجاج لمجلس الأمن بسبب وحشية العملية!
في أنبل حرب خاضها الجيش المصري في رمضان جلس على قاعدة صواريخ يتعامل مع كتيبة دبابات في الإسماعيلية وحده.. وللأسف انكشف موقعه لليهود الذين عرفوا أنه قائد المجموعة التي توجعهم، فركزوا مدفعيتهم كلها لضربه حتى ارتقى شهيدًا مثلما كان يحلم..
ساعتها صدقت عروسه أنه مجنون.. فقد كان في تعامله معها طيبًا وحنونًا ورومانتيكيًا!…
كان يسميه اليهود الغزاة بالرجل الشبح!
وسماه رجاله ” أبونا “..
وسماه الجيش المصري” أبو الشهداء “.
وسمته مصر حينها ” الكبير “!
وسميناه نحن في الكتائب الأخرى ” أمير الشهداء”.
وفجأة أجهش سعد حلاوة بالبكاء، وتبعه الآخرون فقد كانوا يبكون إبراهيم الرفاعي!