ذَكَر الإمام الماوردي في كتابه «أدب الدنيا والدين»، عَنْ بِنْتِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ أَنَّهَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيَّ، وَكَانَ أَجْوَدَ قُرَيْشٍ فِي زَمَانِهِ: مَا رَأَيْت قَوْمًا أَلْأَمَ مِنْ إخْوَانِك، قَالَ: مَهْ! وَلِمَ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: أَرَاهُمْ إذَا أَيْسَرْت لَزِمُوك، وَإِذَا أَعْسَرْت تَرَكُوك. قَالَ: هَذَا وَاَللَّهِ مِنْ كَرَمِهِمْ، يَأْتُونَنَا فِي حَالِ قُدرتنا على إكرامهم، وَيَتْرُكُونَنَا فِي حَالِ الضَّعْفِ عن القيام بحقهم.
فَانْظُرْ كَيْفَ تَأَوَّلَ بِكَرْمِهِ هَذَا التَّأْوِيلَ حَتَّى جَعَلَ قَبِيحَ فِعْلِهِمْ حَسَنًا، وَظَاهِرَ غَدْرِهِمْ وَفَاءً، وفي هذا ما يؤكد أن صدره كان سليماً تجاههم، ولهذا طلب المعذرة لهم.
فما أهم المعينات على سلامة الصدر؟
أولاً: حسن الظن بالآخرين والتماس المعذرة لهم:
إن سوء الظن يوغر الصدر، ويزرع الضغينة في القلب، وقد نهى الله تعالى عن ذلك، فقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات: 12)، فلا ينبغي للمسلم أن يظن بإخوانه إلا خيراً، بل إنه يبحث عن محمل للخير في كلامهم وأفعالهم، فقد قال سيدنا عمر بن الخطَّابِ رضي الله عنه: لا يحِلُّ لأمرئ مسلمٍ سَمِع من أخيه كَلِمةً أن يظُنَّ بها سوءًا، وهو يجِدُ لها في شيءٍ من الخيرِ مَحمَلًا(1)، وقال الإمام الشافعي: من أراد أن يقضي الله تعالى له بالخير فليحسن الظن بالناس(2).
ومن حسن الظن بالناس: التماس الأعذار، وإقالة العثرات، والتغاضي عن الزلات، وتذكر سوابق الحسنات وعظيم الأفعال، فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: «إِذَا بَلَغَكَ عَنْ أَخِيكَ شَيْءٌ، فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْرًا، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَهُ عُذْرًا، فَقُلْ: لَعَلَّ لَهُ عُذْرًا لا أعرفه»(3)، فعلى المسلم أن يلتمس المعاذير للناس، وأن يحسن الظن بهم، حتى يصل إلى سلامة الصدر.
ثانياً: القناعة والرضا بما قسم الله:
الرضا يفتح للعبد باب السلامة، ويجعل قَلْبَهُ سَلِيمًا نَقِيًّا مِنَ الْغِشِّ وَالْغِلِّ، وَتَسْتَحِيلُ سَلَامَةُ الْقَلْبِ مَعَ السُّخْطِ وَعَدَمِ الرِّضَا، وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَشَدَّ رِضًا كَانَ قَلْبُهُ أَسْلَمَ، فَالْخُبْثُ وَالْغِشُّ قَرِينُ السُّخْطِ، وَسَلَامَةُ الْقَلْبِ وَبِرُّهُ وَنُصْحُهُ قَرِينُ الرِّضَا(4).
ومن علامات الرضا بما قسم الله القناعة وعدم التطلع إلى ما ليس لك، بل إن سليم الصدر هو الذي إذا رأى نعمة تنساق إلى أحد رضي بها، وأحس فضل الله فيها، وذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ»(5)، وإذا رأى أذى يلحق بأحد من خلق الله رثى له، ورجا الله أن يفرج كربه ويغفر ذنبه، وبذلك يحيا المسلم ناصع الصفحة، راضياً عن الله وعن الحياة، مستريح النفس من نزعات الحقد الأعمى(6).
ثالثاً: مداومة ذكر الله وقراءة القرآن:
الذكر يجعل القلب مطمئناً، حيث قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)، وأفضل الذكر قراءة القرآن الكريم، فهو دواء لكل داء، وفي ذلك يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس: 57)، ويقول عز وجل: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الإسراء: 82)، فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الآفات، وهو مصدر السلامة والسعادة في الدنيا والآخرة.
رابعاً: الإخلاص:
القلب المخلص لله تعالى لا يحمل تجاه المسلمين إلا المحبة الصادقة، فهو يسعد لما أكرمهم الله به من الخير، ويحزن لما نزل بهم من ابتلاء، وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإخلاص يعين على سلامة الصدر، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ لا يُغلُّ علَيهِنَّ قلبُ مؤمنٍ: إخلاصُ العملِ للَّهِ، والنَّصيحةُ لوُلاةِ المسلمينَ، ولزومُ جماعتِهِم، فإنَّ دَعوتَهُم تُحيطُ مِن ورائِهِم»(7).
خامساً: عدم الاستماع إلى النميمة:
النّمام يفسد صفاء القلوب، ويشعل فيها نار العداوة والبغضاء، حيث إنه ينقل الكلام بين الناس بغرض الوقيعة بينهم، فإذا أراد المسلم أن يحافظ على قلبه سليماً تجاه الناس فعليه أن يغلق الباب في وجوه النمّامين، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْهِمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ»(8).
سادساً: المبادرة إلى إصلاح ذات البين:
فإن الله تعالى أمر بذلك في قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) (الأنفال: 1)، وإن إصلاح ذات البين يقطع الطريق أمام الخصومة والهجر، ولهذا جعل الرسول صلى الله عليه وسلم خير الناس من يبادر إلى الصلح، ففي صحيح مسلم، عَنْ أَبِي أَيُّوب الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ»، فلا ينبغي أن نطيل في الخصام، لأن خير الناس من يبدأ بالسلام.
سابعاً: الصدقة:
إن الصدقة تطهر القلب، وتزكي النفس، فقد قال الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (التوبة: 103)، كما أن الصدقة لا تقف عند حد إنفاق المال، بل إنها تتسع لتشمل التصدق على الناس بما يتحدثون به في حقوقنا، وهذه الصدقة تسهم في طهارة القلب وسلامة الصدر، وهي صدقة متقبلة، فقد روى البيهقي في دلائل النبوة وصححه الألباني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى الصدقة، فتصدق الناس، ورجع عُلبة بن زيد إلى بيته يبكي ويقول: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تجعل في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في مال أو جسد أو عِرض، ثم أصبح مع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين المتصدق هذه الليلة؟»، فلم يقم أحد، ثم قال: «أين المتصدق؟ فليقم»، فقام إليه فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشر فوالذي نفس محمد بيده لقد كُتِبَت في الزكاة المتقبلة».
ثامناً: الحرص على إشاعة المحبة بين الناس:
إن إشاعة المحبة بين الناس تفتح الطريق أمام سلامة قلوبهم وحسن سلوكهم، وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، من خلال الحث على إفشاء السلام، والتأكيد على أن ذلك يؤدي إلى المحبة بين الناس، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»(9).
قال ابن عبدالبر: في هذا دليل على فضل السلام لما فيه من رفع التباغض وتوريث الود(10)، كما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إنفاق الهدايا بين الناس، من أجل نشر المحبة التي تسهم في سلامة الصدر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَهَادُوْا تَحَابُّوا»(11).
تاسعاً: الدعاء:
إن صلاح القلب بيد الله وحده، وقد أوضح الله تعالى أن التوجه إليه بطلب سلامة القلب من سمات المؤمنين، فقال: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر: 10)، وكان من دعاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «وأسألك قلبًا سليمًا»(12).
عاشراً: تذكُّر الأجر العظيم:
إن سلامة الصدر تبلغ بصاحبها أرقى الدرجات وتسكنه أعلى الجنات، ويدل على ذلك قول الله تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) (الأعراف: 43)، وقوله عز وجل: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {45} ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ {46} وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) (الحجر).
_________________________
(1) ترتيب المدارك وتقريب المسالك: القاضي عياض (4/ 134).
(2) بستان العارفين: للنووي، ص 33.
(3) التوبيخ والتنبيه: لأبي الشيخ الأصبهاني، ص 53.
(4) مدارج السالكين: لابن القيم (2/ 201).
(5) سنن أبي داود (5073).
(6) خلق المسلم: الشيخ محمد الغزالي، ص 79.
(7) أخرجه ابن ماجه بسند صحيح (3056).
(8) سنن الترمذي (3896).
(9) صحيح مسلم (54).
(10) التمهيد: لابن عبدالبر، ص 19.
(11) صحيح الجامع الصغير (3004).
(12) رواه الطبراني، وابن حبان، وصححه الألباني.