أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه في صحيحه عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَلِيٍّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ إِسْلامُهُمَا مَعًا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنَ الآخَرِ، فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَكَثَ الآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ.
قَالَ طَلْحَةُ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ فِي النَّوْمِ، إِذْ أَنَا بِهِمَا، فَخَرَجَ خَارِجٌ مِنَ الْجَنَّةِ فَأَذِنَ لِلَّذِي مَاتَ الآخِرَ مِنْهُمَا، ثُمَّ رَجَعَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ، فَقَالَ: ارْجِعْ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْنِ لَكَ.
فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ فَحَدَّثَ النَّاسَ فَعَجِبُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مِنْ أِيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ!» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الَّذِي كَانَ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ اجْتِهَادًا، فَاسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَدَخَلَ الآخَرُ الْجَنَّةَ قَبْلَهُ!
قَالَ: «أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَهُ؟» قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فلَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ».
إنها الدرجات العالية لمن أدرك رمضان من المؤمنين، فبشرى لكل من أدرك رمضان.
ولهذا كان أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم يهتمون بشهر رمضان ويفرحون بقدومه ويدعون الله أن يبلغهم إياه، حيث كان من دعائهم: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان(1).
دواعي الفرح برمضان
– لِمَ لا نفرح بقدوم رمضان وهو شهر القرآن؟ قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: 185).
– إنه شهر الصيام والقرآن اللذين يشفعان للعبد يوم القيامة، ففي الحديث الشريف عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ»(2).
– إنه شهر المغفرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ»(3).
– إنه شهر العتق من النيران، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ للَّهِ عندَ كلِّ فِطرٍ عتقاءَ وذلِك في كلِّ ليلةٍ»(4).
– إنه الشهر الذي تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران ويتسابق الناس إلى طاعة الرحمن، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينَ»(5).
فيا باغي الخير، يا من تريد أن تكون من سكان الجنة، كيف نستقبل شهر رمضان؟
أولاً: نستقبل شهر رمضان بسلامة الصدر، فإن التشاحن يمنع المغفرة، ويوقف صعود الطاعة إلى الله، لما رواه ابن ماجه والطبراني وغيرهما وصححه الألباني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يطّلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تُفْتَحُ أبْوابُ الجَنَّةِ يَومَ الإثْنَيْنِ، ويَومَ الخَمِيسِ، فيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ باللَّهِ شيئًا، إلَّا رَجُلًا كانَتْ بيْنَهُ وبيْنَ أخِيهِ شَحْناءُ، فيُقالُ: أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا».
وقد سُئِلَ ابنُ مَسعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ: كَيفَ كُنتُم تَستَقبِلُونَ رَمَضَان؟ قَالَ: مَا كَانَ أحَدُنَا يَجرُؤ عَلَى استِقبَالِ الهِلَالِ وَفِي قَلبِهِ ذَرًّةُ حِقدً عَلَى أخِيهِ المُسْلِم(6)، فلنتواصل ولنتصالح ولنتسامح عسى الله أن يفتح لنا أبواب الطاعات ويدخلنا من أبواب الجنات.
ثانياً: اغتنام الأيام الباقية من شعبان في التهيئة لشهر رمضان بقراءة القرآن وإخراج زكاة الأموال، فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شعبان انكبوا على المصاحف فقرؤوها وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان وقيامه.
ثالثاً: تجديد النية للصيام والقيام وعمل الصالحات في رمضان، فإن العبد يؤجر بنيته، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى(7)، فمن جدد نيته وجهز قائمة أعماله الصالحة في رمضان وعزم عزماً صادقاً على فعلها فإنه يحصل أجرها وثوابها قبل أن يفعلها، فقد أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أظلكم شهركم هذا، بمحلوف رسول الله، ما مرّ بالمؤمنين شهر خير لهم منه، ولا بالمنافقين شهرٌ شر لهم منه، إن الله عز وجل ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يدخله، ويكتب إصره وشقاءه من قبل أن يدخله، وذلك أن المؤمن يُعِدّ فيه القوة للعبادة من النفقة، ويُعِدّ المنافق اتّباع غفلة الناس، واتباع عوراتهم، فهو غنمٌ للمؤمن، ونقمة للفاجر»(8)، فلننوِ الخير ولنعزم على فعل الطاعات حتى يكتب الله لنا أجرها ويضاعف ثوابها في هذا الشهر الكريم.
رابعاً: الاحتفال برؤية الهلال؛ حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخرجون في آخر شعبان، ويتحرون هلال رمضان، فقد روى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى هلال رمضان قال: «اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، هلال خير ورشد، ربي وربك الله».
خامساً: التوبة الصادقة؛ فهي المرحلة التي تسبق العبادة، كما جاء في القرآن الكريم في حق الرجال قوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ) (التوبة: 112)، وقال في حق النساء: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) (التحريم: 5).
فقبل العبادة تأتي التوبة؛ ولهذا يجب علينا أن نتوب إلى الله في هذه الأيام المباركة، فنترك الذنوب ونندم عليها ونعزم على عدم العودة إليها، ونرد المظالم إلى أصحابها، عسى الله أن يتقبل منا الصيام والقيام وصالح الأعمال، ويجعلنا في هذا الشهر من المقبولين.
_______________________
(1) حلية الأولياء: لأبي نعيم الأصبهاني (6/ 269).
(2) أخرجه أحمد في مسنده (6626).
(3) متفق عليه.
(4) رواه ابن ماجه بسند صحيح (1340).
(5) متفق عليه.
(6) لطائف المعارف: لابن رجب الحنبلي.
(7) متفق عليه.
(8) أخرجه أحمد في مسنده (10404).