لم يكتف المسلمون الصينيون بنسخ القرآن الكريم على الورق، بل سعوا أيضاً لنسخه وطبعه على «الكليشيهات» الخشبية، وترجمة معانيه إلى اللغة الصينية، وأحرزوا منجزات عديدة في هذا الصدد، ونجحوا في نقش القرآن على الخشب مرتين؛ الأولى عام 1862م بأمر القائد المسلم دو ون شيو، وأنفقت عليها مدينة دالي الكثير من المال والجهد، والثانية كانت عام 1895م على يد العالم المسلم ماليان يوان، واستغرق عامين لإتمامه، واستأجر له 30 عاملاً بالإضافة إلى إنفاق الكثير من المال.
ثانياً: نسخ القرآن المطبوعة على «الكليشيهات» الخشبية:
1- نسخة القائد «دو ون شيو»:
ظهر القرآن الكريم المطبوع على الكليشيهات الخشبية في الصين في أواسط القرن الـ19 الميلادي، وذلك بأمر من القائد المسلم دو ون شيو (1827 – 1872م) الذي قاد انتفاضة أبناء هوي في يونان وبسط سلطته على دالي جنوب الصين.
وقدم القائد شيو اقتراحاً بطباعة القرآن بـ«الأكلشيه»، فظهرت هذه النسخة عام 1279هـ/ 1862م، وقد حملت هذه النسخة اسم «مينغ تشين جينغ»؛ أي «السفر الحقيقي الخالد»، وقد خرجت هذه النسخة في 30 مجلداً، وكتب في الصفحة الأولى منها: «نقش من جديد تحت إشراف القائد الأعلى سنة 1279هـ»، وتتجلى روعة هذا المصحف في ضبط كتاباته، وجمال خطوطه، ودقة نقوشه، وهو أول مصحف منقوش في الصين.
وفي عام 1872م استولى جيش أسرة تشينغ على دالي، فأتلفت هذه النسخة في الحرب؛ إلا أن ماجيه تشن، المعلم والمستشار الديني في قصر القائد دو ون شيو، غامر بحفظ بعض الأجزاء من هذه النسخة لدى أسرته، وظلت الأجزاء الباقية في يد الإمام ما جيه تشن، وهي الآن عند الإمام ما بين تشيوان، حفيد الشيخ ما جين تشن من الجيل السادس.
– نسخة الشيخ «ما ليان يوان»:
في عام 1895م، حصل العالم التربوي الشيخ ماليان يوان على معونات مالية من الأخوين الثريين المسلمين ما تشي يوان، وما تشي هوا لنقش القرآن الكريم على «الكليشيهات» الخشبية، فعهد بهذه المهمة إلى أحد تلامذته النجباء، وهو الخطاط الشيخ تيان جيا بي، الذي كتب الآيات القرآنية على الورق، ثم سلمها للشيخ ماليان يوان لمراجعتها.
ثم كلف الشيخ ماليان يوان 30 خطاطاً ماهراً من مقاطعة سيتشوان، فأقبلوا على نقش القرآن في مسجد بمدينة كونينمنغ حاضرة مقاطعة يونان، وتفانوا في عملهم هذا مدة 3 أعوام، وبعد انتهائهم من نقش كافة الآيات القرآنية على الألواح الخشبية، قام الحاج شانشوان شيوان بمراجعتها مراراً وتكراراً لتجنب أي خطأ.
وقد كانت هذه النسخة رائعة، وأسلوب تصميمها وتجليدها يحمل روح البساطة الكلاسيكية الجميلة، وأوراقها مصنوعة من القطن المحلي، إنتاج يونان، وأغلفتها قماشية دقيقة، وخطها العربي قوي وجميل، ويحمل صيغة الخط الصيني، وقد بلغ عدد الأخشاب المنحوتة في هذه النسخة حوالي 1946 قطعة، تشمل 3571 صفحة للطبع.
وقد أنفق على إعداد هذه النسخة 8500 ليانغ (ليانغ واحد يساوي 50 جراماً من الفضة)؛ أي حوالي 425 كيلوجراماً من الفضة، وكان ظهورها بمثابة ثاني نسخة لمصحف مطبوع بـ«الكليشيه»، وتم توزيعه في جميع أرجاء يونان، وفي عام 1985م شرعت الجمعية الإسلامية في مقاطعة يونان بطبع أعداد من المصاحف الجديدة طبقاً لهذه النسخة.
ولم تكن هذه النسخة تقليداً لمثيلتها الأولى، وإنما تميزت بكل ما هو جديد من الخط والحفر، وأسلوب الطباعة، وتقنيتها، لذلك فهي تعد أثراً إسلامياً ثميناً في الصين، وهي محفوظة الآن في مسجد نانتشنغ بمدينة كونينمنغ في يونان.
ويعتبر المسلمون الصينيون أن نسخ القرآن الكريم على «الكليشيهات» الخشبية أحد الأعمال العظيمة؛ لما يتطلبه من جهد وتعب، ولذا فهم يعتبرون أن النسختين الموجودتين هما من أروع التحف الموجودة نسخ القرآن.
وتُعد نسخ القرآن على «الكليشيهات» الخشبية تحفاً نادرة، وبقاؤها حتى الآن دون نقص مثار الإعجاب؛ لأنها تمثل تراثاً قيماً للمسلمين في الصين، وإحدى روائع التحف الإسلامية.
– نقش القرآن على الحجر (مصحف أسرة الشيخ وانغ فنغ تونغ):
في عام 2006م، قدمت إحدى الأسر المسلمة في خبي عملاً إذا ما قورن بالنسختين السابقتين، عُد أضخم وأعظم، فقد قدمت أسرة الشيخ وانغ فنغ تونغ المكونة من أربعة أفراد، هم: الشيخ وانغ، وابنه وانغ تشو يانغ، وحفيدته وانغ ون تشونغ، وزوج الشيخ وانغ، القرآن الكريم منقوشاً على الحجر.
لقد نقشت هذه الأسرة 30 جزءاً من القرآن على 528 لوحاً حجرياً، طول كل منها متر وعرضه نصف متر، وسمكه 3 سنتيمترات، وهذا يعني أنها إذا وضعت بجوار بعضها تغطي مساحة 264 متراً تقريباً، ويصل وزنها الإجمالي إلى 29 طناً.
وقد استلزم هذا المشروع مجهوداً كبيراً من حيث اختيار نوع الأحجار المناسبة، ثم نقلها بسيارات إلى المنزل، وتهيئتها، ثم نقش الآيات الكريمة عليها.
لقد نذرت أسرة الشيخ وانغ نفسها من أجل إتمام هذا العمل، الذي استغرق 5 سنوات، حيث بدأ العمل فيه في عام 2002، وانتهى في عام 2006م، وقد نقلت هذه النسخة إلى مسجد دونغسي في بكين، حيث تم الاحتفال بإنجازها يوم الجمعة 9 رجب 1427هـ/ 4 أغسطس 2006م، وسط احتفال مهيب أقامته الجمعية الإسلامية الصينية، وعدد من المسؤولين الحكوميين، وبعض رؤساء البعثات الدبلوماسية لدى بكين.
أما أسرة وانغ فنغ تونغ، مقارنة مع ما سبق، فهي أسرة عادية لم تطلب مساعدة أو تبرعاً، وأنجزوا المهمة اعتماداً على أنفسهم.
– الشيخ ما جينغ فو:
في مدينة هاييوان بمنطقة نينغشيا بشمال غرب الصين، يعيش الشيخ ما جينغ فو، الذي قضى أكثر من 30 عاماً من عمره في جمع المخطوطات النادرة للقرآن الكريم والكتب الإسلامية والتحف النادرة المتعلقة بتاريخ الإسلام والمسلمين، حتى غدا عنده ما يقرب من 20 ألف نسخة مخطوطة نادرة الوجود، بخلاف مئات القطع والتحف المعدنية والفخارية التي تجسد تاريخ العرب والمسلمين الطويل في الصين، وقد حفظها داخل غرفة في بيته، وحرصاً على ألا تضيع هذه الكنوز النادرة، فقد خصصت له الحكومة مكاناً لعرض مخطوطاته ونوادره.
وقد عرضت عليه جهات حكومية وخاصة شراء جزء من هذه التحف، لكنه كما يقول: «يفضل تجارة لن تبور».
فضلاً عن كل ما ذكر؛ يوجد لدى عامة المسلمين الصينيين، وفي مكتبات المساجد، والمعاهد الإسلامية المنتشرة في أنحاء البلاد، عدد هائل من المخطوطات للمصحف الشريف، وغيره من الكتب الإسلامية، وكثير مثلها لم يكتشف بعد، خاصة أن الكثير من المسلمين الصينيين يخشون إظهارها؛ خوفاً عليها، حيث فقدوا الكثير منها في هوس الثورة الثقافية (1966-1976م)، فلا يظهرونها إلا في أضيق الحدود ولمن يثقون فيه، ويرون أن إخفاءها عن الأعين عناية بها ومحافظة عليها.