العشر الأواخر من رمضان منحة من الله تعالى لعباده المؤمنين، وقد شرّفها بليلة القدر التي أُنزل فيها القرآن؛ (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (الدخان: 3)، وقال في فضلها: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر: 3)، وهي تعدل صيام رمضان وقيامه؛ لقول النبي ﷺ: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه» (رواه البخاري).
وقد جُعلِت تلك الأيام العشر ختامًا لشهر الصوْم، فلزم الاجتهاد فيها لإتمام العمل واستكمال المهمة، فالعبرة بكمال النهايات لا بنقصان البدايات، وهي فرصة لاستدراك ما فات وتحصيل الخيرات.
هديُ النبي ﷺ في العشر الأواخر
كان حال النبي ﷺ في هذه الأيام مختلفًا عن باقي أيام العام، بل عمّا سبقها من أيام رمضان؛ حيث كان يجتهد في الطاعة، ويخصّها بمزيد من العبادة رغم ما غُفر له ما تقدم من ذنب وما تأخر، تقول عائشة رضي الله عنها: «كان النبي ﷺ إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله»، وشدّ المئزر تعني اعتزال النساء والاجتهاد في العبادة، ومنها إحياء الليل بالاستغراق في الصلاة والقرآن والذكر، وكان ﷺ يوقظ أهله للقيام والاجتهاد في الطاعة، كان يوقظهن إذا قضى تهجده وأراد أن يوتر؛ حرصاً منه ﷺ على أن يغتنمن الخير في هذه الليالي المباركة.
أمهات المؤمنين مجتهدات بالعشر الأواخر
حرصت أمهات المؤمنين على الاجتهاد في الطاعة في العشر الأواخر من رمضان؛ فكنّ يقمن جماعة في المسجد بصحبة النبي ﷺ، وقد شهدن الاعتكاف مع النبي ﷺ، لما روته عائشة: «كان النبي ﷺ يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله، فاستأذنت حفصة عائشة أن تضرب خباء فأذنت لها، فضربت خباء، فلما رأته زينب بنت جحش ضربت خباء آخر» (رواه البخاري).
وكنّ حريصات على الدعاء في تلك الأيام العشر، تقول عائشة: قلتُ: يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر، ما أدعو به؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» (رواه الترمذي).
نفحة ربانية فلا تضيعيها
وحريٌّ بالمرأة المسلمة ألّا تضيع تلك النفحة الربانية، الليالي العشر، بل وجب عليها تعظيمها في قلبها ليظهر هذا التعظيم على جوارحها؛ اجتهادًا بأنواع القربات والطاعات، وأن تعلم أن تلك الليالي معدودات ربما لم تدركها مرة أخرى، ولا يمنعها ما يمنع النساء من الصوْم والصلاة والاعتكاف من أن تفعل ذلك بقلبها، وأن تظهر الخشية لله، فإن قُدّر لها مشاركة المسلمين طاعاتهم فعليها التفرّغ لتلك الطاعات، وألّا تخلطها بأعمال واهتمامات دنيوية تفسدها، وقد كان من فرط اهتمام الصحابة بتلك الأوقات أنهم كانوا يفطرون على لقيمات ويؤخرون الفطور للسحور كي لا يضيع وقتهم في تناول الطعام.
وهناك الكثير من الأعمال والطاعات التي يمكن أن تقوم بها المرأة المسلمة في هذه الليالي العشر، منها:
– تصفية القلوب وبذل الودّ للمسلمين:
من الأعمال الأوْلى بالاهتمام في هذه الليالي، ترك الخصومة والتنازع، وتصفية القلوب تجاه المسلمين من الغلّ والحقد والحسد، بل بذل الودّ لهم، وإظهار المحبة والتعاون على البرّ، فإنها أيام الله، وهي أيام فرح وسرور وفيوضات إلهية خاب وخسر من أتبع نفسه هواها أو اتّبع خطوات الشيطان فانفلتت منه.
ولا شيء أفسد للصفّ المسلم من الخصومة والهجر، وإن التشاحن سبب الحرمان، ومن ابتغى العفو من الله في هذه الأيام فليبادر هو بالعفو عن الناس، فعن عبادة بن الصامت قال: خرج النبي ﷺ ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: «خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم» (رواه البخاري).
– القيام وتلاوة القرآن والدعاء:
العبادة الجامعة في تلك العشر هي قيام الليل والتهجد، وبها يكون الذكر والدعاء وقراءة القرآن، فيتحقق أكثر من مقصود، وتُطبق أكثر من سُنة وردت عن المعصوم ﷺ، والقيام في العموم شرف المؤمن، ومرضاة للربّ، وشفاء من كل داءٍ وكرب، وهو دأب الصالحين، ومدرسة الأوابين، وإن ناشئة الليل هي أشد وطئًا وأقوم قيلًا، وفي هذه الليالي تكون الثمرة أنضج وأطيب، فالنفوس مهيأة، والقلوب معلقة بخالقها رب الأرباب.
ولتدرك المسلمة أيضًا أن هذا الشهر هو شهر القرآن (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: 185)، وأن لنزوله في ليلة القدر مغزى فهمه الصحابة والسلف الكريم؛ ما جعلهم يكثِّفون من تلاوته ومدارسته والقيام به.
وفي هذه الأجواء من الإيمان والعبودية لله يكون الدعاء أرجى للقبول، فَلْتُلِحْ المسلمة على ربها في هذه الأوقات التي تكون فيها قريبة من ربها، بعيدة عن هموم الدنيا ومشاغلها.
– تحري ليلة القدر:
في هذه العشر ليلةٌ العملُ فيها خير من العمل في ألف شهر، هي ليلة القدر؛ لذا وجب على المسلم والمسلمة اغتنامها للفوز بتلك الليلة التي قال عنها النبي ﷺ: «.. وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرمها فقد حُرم الخير كله، ولا يُحرم خيرها إلا محروم» (رواه النسائي).
وإن من الخطر أن تغفل المسلمة عن تحري والتماس هذه الليلة التي تعدل العبادة فيها عبادة ثمانين سنة، وفيها تتنزل الملائكة بإمامة جبريل عليه السلام؛ ما جعل الصحابة والسلف يتهيؤون لاستقبالها بالغسل والتطيب ولبس أجمل الثياب، يضيفون جمال الظاهر إلى جمال الباطن.
فلتتحرَّ المسلمة هذه الليلة؛ لقوله ﷺ: «تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان».
– الاعتكاف:
يُسنُّ للمرأة المسلمة الاعتكاف، بلزوم المسجد، والخلوة مع الله والانشغال بعبادته ومناجاته وذكره ودعائه، بشرط إذن زوجها، ووجود مكان خاص بالنساء في المسجد، وألّا يعطل واجبًا من واجباتها الأسرية، وهو ما صحّ عن عائشة: «أنّ النبي ﷺ اعتكف معه بعض نسائه، وهي مستحاضة ترى الدم» (رواه البخاري)، وهو فرصة لتجنّب ما يشوش على القلب ويشغله عن الله، وتعظيم لهذه الأوقات المباركة وبيان قدرها، وتأسيًا برسول الله ﷺ وزوجاته أمهات المؤمنين؛ حيث كان يعتكف ﷺ العشر الأواخر من رمضان، فلمّا كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يومًا، ثم اعتكفت أزواجه من بعده.