أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله».
وفي صحيح مسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيرها».
ففي هذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يُعَظَم العشر الأواخر من رمضان، ويجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها، بل إنه يحث الناس على ذلك.
فما سر تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه العشر؟
إن سر العظمة في الليالي العشر الأخيرة من رمضان يظهر في أمرين.
الأول: آخر السباق:
إن الله تعالى جعل رمضان شهراً يتنافس فيه الناس على الطاعة، فقد أخرج الطبراني عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاكم رمضانٌ، شهرُ بركةٍ، يغشاكم اللهُ فيه، فَيُنزِلُ الرحمةَ، ويَحُطُّ الخطايا ويَستجيب فيه الدعاءَ، وينظر اللهُ تعالَى إلى تنافُسِكم فيه، ويُباهي بكم ملائكتَه، فأَرُوا اللهَ من أنفُسِكم خيرًا، فإنَّ الشَّقِيَّ من حُرِمَ فيه رحمةَ اللهِ عزَّ وجلَّ».
ومعلوم أن التنافس يشتد في المرحلة الأخيرة منه حتى يدرك القوي الفوز، فإن الخيل إذا شارفت المضمار -يعني إذا رأت النهاية- أسرعت.
وقد عبّر الحسن البصري عن هذا المعنى وارتباطه بشهر رمضان، فقال: إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون، ثم بكى رحمه الله(1).
كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكد أهمية خواتيم الأعمال، ففي صحيح البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّما الأعمالُ بالخواتيمِ»، وختام رمضان هو العشر الأواخر منه، فمن اهتم بهذه العشر واجتهد فيها فاز بالسباق، ونال أجر شهر رمضان المبارك.
الثاني: فيها ليلة القدر:
ليلة القدر التي أنزل الله فيها سورة كاملة في القرآن الكريم سميت باسمها، وأكدت فضلها، وأوضحت نزول القرآن والملائكة فيها، حيث قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ {1} وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ {2} لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ {3} تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ {4} سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (القدر).
وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم فضل ليلة القدر وأهميتها، حيث أخرج الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة قال: لمَّا حضَرَ شهر رمضانُ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «قد جاءَكم رمضانُ، شهرٌ مُبارَكٌ، افترَضَ اللهُ عليكم صِيامَه، تُفتَحُ فيه أبوابُ الجنَّةِ، وتُغلَقُ فيه أبوابُ الجَحيمِ، وتُغَلُّ فيه الشَّياطينُ، فيه لَيلةٌ خَيرٌ مِن ألْفِ شَهرٍ، مَن حُرِمَ خَيرَها فقد حُرِمَ».
وهذه الليلة الكريمة هي إحدى ليالي العشر الأواخر من رمضان، فقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أنها في العشر الأواخر، وقد أخرج الإمام مالك في كتاب «الموطأ»، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرِيَ أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر.
ففي هذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على أمته، باحثاً عن كل ما يجلب لها الخير والرشاد، فلما رزقه الله تعالى ليلة القدر، كان حريصاً أشد الحرص على اغتنامها، وحث أمته على ذلك، ففي صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَالَ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ».
ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يهتم بالعشر الأواخر من رمضان، فيجتهد في العبادة فيها، حيث كان يشد المئزر ويحيي ليله ويوقظ أهله، وشد المئزر كناية عن عزم الأمر والانشغال بالعبادة؛ والمعنى أن من كان في رمضان يقرأ القرآن ويصلي القيام وينفق على المساكين فإنه يجتهد أكثر من ذلك في هذه العشر.
ومن مظاهر الاجتهاد في هذه العشر الحرص على قيام الليل أكثر من غيرها، عسى أن تكون ليلة منها هي ليلة القدر، فيغفر الله لقائمها ذنوبه، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة، قال: «مَن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ»، وعن أبي بكر أنه كان يصلي في العشرين الأولى من رمضان كما يصلي في سائر السنة، فإذا دخلت العشر الأواخر اجتهد أكثر من ذلك(2).
كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، من أجل تحري ليلة القدر والفوز بثوابها، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأوَاخِرَ مِن رَمَضَانَ، حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِن بَعْدِهِ».
وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف من أجل تحري ليلة القدر، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: إنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ اعْتَكَفَ العَشْرَ الأوَّلَ مِن رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ العَشْرَ الأوْسَطَ، ثم قال: «إنِّي اعْتَكَفْتُ العَشْرَ الأوَّلَ، أَلْتَمِسُ هذِه اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ العَشْرَ الأوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ، فقِيلَ لِي: إنَّهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ، فمَن أَحَبَّ مِنكُم أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ»؛ فَاعْتَكَفَ النَّاسُ معهُ.
والخلاصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهتم كثيراً بالعشر الأواخر من رمضان، لأنها تمثل ختام الشهر الكريم ونهاية السباق فيه، وهو أمر يستلزم الجد والاجتهاد، من أجل إحسان الختام للأعمال، كما كان يجتهد فيها صلى الله عليه وسلم ويأمرنا بذلك، لأن فيها ليلة القدر، التي هي خير ليالي الدنيا على الإطلاق، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا خيرها وفضلها وأجرها، اللهم آمين.
_________________________
(1) العقد الفريد، ابن عبد ربه الأندلسي (3/ 150).
(2) لطائف المعارف، لابن رجب الحنبلي، ص229.