عندما انتهت الحروب الصليبية علي المشرق الإسلامي (1096 -1291م) بهزيمة الصليبيين، لم ييأس هؤلاء الصليبيون من محاولات العودة إلى احتلال بلادنا؛ فاتجهوا إلى دراسة هذه البلاد في كل ما يتصل بعقيدتها وعاداتها وأخلاقها وثرواتها، ليتعرفوا على مواطن القوة فيها فيضعفوها، وإلى مواطن الضعف فيغتنموها، ولما تم لهم بعد 7 قرون الاستيلاء العسكري والسيطرة سياسيًا، أخذوا في إضعاف المجتمعات وبث الوهن والفوضى في أوصالها الاجتماعية والثقافية بالتشكيك في العقيدة والأنظمة الاجتماعية، خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1014 – 1918م) بهزيمة ألمانيا وحليفتها الدولة العثمانية التي اتجه المنتصرون إلى تقطيع أوصالها ومحاولة إسقاطها، وهو ما تم بالفعل عام 1924م (العام الذي يعرف بعام سقوط الخلافة، وفي أقوال أخرى «غيابها»)، حينها اجتاحت الأمة موجة من الانهيار الأخلاقي، وتم حصر الناس في دائرتين؛ الضنك والحرمان، فبات لا هَمَّ للناس إلا الحصول على لقمة العيش، أو في دائرة الترف والحرص على جمع المال بأي وسيلة شريفة أو غير شريفة، وبذلك بدأت الشعوب تفقد الثقة بنفسها، وترتمي في أحضان الغرب، وهو ما سهَّل للاستعمار الغربي تحقيق أهدافه بأقل التكاليف والجهود.
وصارت حال الأمة الإسلامية التي كانت صاحبة السيادة وذات الصولة ومثال الكمال في العالم، أصبحت منكسرة تتخبط في الظلام والأوهام بسبب مخالفتها لدينها وأخذها بأسباب المدنية الخادعة التي أدت إلى الانفكاك والانحراف عن الصراط المستقيم، صراط الله العزيز الحميد.
في ذلك الوقت كان المجتمع المصري مصابًا بالضعف في العقيدة والعاطفة والأخلاق والإرادة والعزم، بل ضعف في النواحي السياسية من جراء سيطرة الاحتلال عليها.
ولم ينس الاستعمار الغربي هزيمته الكبرى قبل أكثر من 7 قرون، فعاد مرة أخرى بقوة لاحتلال الشرق الإسلامي لقرون جديدة، كانت هذه الحال -المؤلمة الجارحة- حال جل الناس، كما يقول اللورد كرومر: «.. وكانت النتيجة الطبيعية أن وجدت جماعة من أفرادهم «مسلمون» ولكنهم متجردون عن العقيدة الإسلامية والخصائص الإسلامية، وإن المصري الذي خضع للتأثير الغربي، فإنه وإن كان يحمل الاسم الإسلامي لكنه في الحقيقة ملحد وارتيابي»، انتهي كلام كرومر.
في هذه الأجواء القاتمة السواد لمع في سماء الشرق نجم يحمل الأمل في بعث جديد، كما قال الكاتب الأمريكي الشهير روبير جاكسون، ظهر الإمام حسن البنا، يرحمه الله، وولدت دعوة «الإخوان المسلمون» في مدينة الإسماعيلية، في 22 مارس 1928م، لنشر الدعوة والتعريف بالإسلام كنظام حياة مستقل بذاته، يستغني بتشريعه عما عداه من الفلسفات الغربية والنعرات القومية وما يشابهها من دعوات وطنية متميزة أو فكرية متحللة أو مادية ملحدة.
ويشرح البنا ذلك قائلًا: «وأنت إذا أمعنت النظر في تعاليم الإسلام وجدته قد وضع أوضح القواعد وأنسب النظم وأدق القوانين لحياة الفرد رجلاً وامرأة، وحياة الأسرة في تكوينها، وحياة الأمة في نشوئها وقوتها وضعفها، وحلل الفكرة التي وقف أمامها المصلحون وقادة الأمم.. فالعالمية والقومية والاشتراكية والرأسمالية والبلشفية والحرب والسلام وتوزيع الثورة والصلة بين المنتج والمستهلك وما يمت بصلة قريبة أو بعيدة إلى هذه البحوث التي تشغل بال ساسة الأمم وفلاسفة الاجتماع كل هذه نعتقد أن الإسلام خاض في لبها ووضع للعالم النظم التي تكفل له الانتفاع بما فيها من محاسن وتجنب ما تستتبعه من خطر وويلات.
وإذ كان الإخوان المسلمون يعتقدون ذلك فهم يطالبون الناس بأن يعملوا على أن تكون قواعد الإسلام هي الأصول التي تبنى عليها نهضة الشرق الحديث في كل شأن من شئون الحياة ويعتقدون أن كل مظهر من مظاهر النهضة الحديثة يتنافى مع قواعد الإسلام ويصطدم بأحكام القرآن فهو تجربة قاسية فاشلة ستخرج منها الأمة بتضحيات كبيرة في غير فائدة فخير للأمم التي تريد النهوض أن تسلك إليه أخصر الطرق باتباعها أحكام الإسلام».
ويؤكد البنا أن الإخوان المسلمين لا يختصون بهذه الدعوة قُطرًا دون قُطر من الأقطار الإسلامية، ولكنهم يرسلونها صيحة يرجون أن تصل إلى آذان القادة والزعماء في كل قطر يدين أبناؤه بدين الإسلام، وأنهم ينتهزون هذه الفرصة التي تتجدد فيها الأقطار الإسلامية وتحاول بناء مستقبلها على دعائم ثابتة من أصول الرقي والتقدم والعمران.
وإن أكبر ما يخشاه الإخوان المسلمون أن تندفع الشعوب الشرقية الإسلامية في تيار التقليد فترقع نهضتها بتلك النظم البالية التي انتقضت على نفسها وأثبتت التجربة فسادها وعدم صلاحيتها.
مشروع «الإخوان» للإصلاح والنهضة
ويطرح البنا معالم مشروع «الإخوان المسلمون» للإصلاح وتحقيق نهضة الأمة قائلًا: إن لكل أمة من أمم الإسلام دستورًا عامًا، فيجب أن تستمد مواد دستورها العام من أحكام القرآن الكريم، وإن الأمة التي تقول في أول مادة من مواد دستورها: إن دينها الرسمي الإسلام يجب أن تضع بقية المواد على أساس هذه القاعدة، وكل مادة لا يسيغها الإسلام ولا تجيزها أحكام القرآن يجب أن تستبدل بما يتفق وهذه الأحكام حتى لا يظهر التناقض في القانون الأساسي للدولة.
وإن لكل أمة قانونًا يتحاكم إليه أبناؤها، وهذا القانون يجب أن يكون مستمدًا من أحكام الشريعة الإسلامية مأخوذًا عن القرآن الكريم متفقًا مع أصول الفقه الإسلامي، وأن في الشريعة الإسلامية وفيما وضعه المشرعون المسلمون ما يسد الثغرة ويفي بالحاجة ويؤدي إلى أفضل النتائج.
وإن في كل أمة مظاهر من الحياة الاجتماعية تشرف عليها الحكومة وينظمها القانون وتحميها السلطات، فعلى كل أمة شرقية إسلامية أن تعمل على أن تكون كل هذه المظاهر مما يتفق وآداب الدين ويساير تشريع الإسلام وأوامره.
إن البغاء الرسمي لطخة عار في جبين كل أمة تقدر الفضيلة، فما بالك بالأمم الإسلامية التي يفرض عليها دينها محاربة البغاء والضرب على يد الزاني والزانية بشدة وقسوة؛ (وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور: 2).
كما أن حانات الخمر في أظهر شوارع المدن وأبرز أحيائها، وتلك اللوحات الطويلة العريضة عن المشروبات الروحية، وهذه الإعلانات الظاهرة الواضحة عن أم الخبائث؛ مظاهر يأباها الدين ويحرمها القرآن الكريم أشد التحريم.
وإن هذه الإباحية المغرية والمتعة الفاتنة واللهو العابث في الشوارع والمجامع، والمصايف والمراتع يناقض ما أوصى به الإسلام أتباعه، من عفة وحياء، وشهامة وإباء، وانصراف إلى الجد وابتعاد عن الإسفاف؛ «إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها».
فكل هذه المظاهر وأشباهها على الأمم الإسلامية أن تبذل في محاربتها ومناهضتها كل ما في وسع سلطانها وقوانينها من طاقة ومجهود لا تني في ذلك ولا تتواكل.
وإن لكل أمة وشعب إسلامي سياسة في التعليم وتخريج الناشئة وبناء رجال المستقبل الذين تتوقف عليهم حياة الأمة الجديدة فيجب أن تبنى هذه السياسة على أصول حكيمة تضمن للناشئين مناعة دينية وحصانة خلقية ومعرفة بأحكام دينهم واعتدادًا بمجده الغابر وحضارته الواسعة.
هذا قليل من كثير من الأصول التي يريد الإخوان المسلمون أن ترعاها الأمم الإسلامية في بناء النهضة الحديثة وهم موجهون دعوتهم هذه إلى كل المسلمين شعوبًا وحكومات ووسيلتهم في الوصول إلى تحقيق هذه الغايات الإسلامية السامية وسيلة واحدة، أن يبينوا ما فيها من مزية وإحكام حتى إذا ذكر الناس ذلك واقتنعوا بفائدته أنتج ذلك عملهم له ونزولهم على حكمه؛ (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108).
ومن هنا، فإن الإصلاح الذي ينشده الإخوان هو الإصلاح الشامل لجميع نواحي المجتمع، إذ كان الإمام البنا يرى أن الأمة في هذه الفترة كانت تجتاز دور انتقال خطير، تريد أن تركز حياتها المستقبلية على أساس متين من أسس الرقي والتقدم.. لا يكفيها أن تعالج ناحية واحدة من نواحي الإصلاح، بل لابد لها من أن تتناول كل النواحي بالتقويم والتجديد حتى يقوي بعضها بعضًا.
وعندما شرع الإخوان في تقديم منهجهم الإصلاحي للمجتمع بدؤوا بحل المشكلات الملحة التي تؤثر في سلامة المجتمع، إذ كان البنا يرى أنه لن يتم استقلال مصر سياسيًا إلا بعد أن تستقل اجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا، ولذا اهتم في البداية بإصلاح النواحي الاجتماعية والثقافية والاقتصادية قبل النواحي السياسية، لأنه كان يرى أن النظم الاجتماعية في الشرق مضطربة ومتذبذبة.
كما أكد البنا أن الشعب يحس بأنه في حاجة إلى إصلاح يتناول أسس حياته، وأن أول أساس يشعر بتهدمه وخطورته هو الناحية الخلقية والاجتماعية لأنها أم المشكلات في حياتنا الخاصة والعامة، والداء المستعصي الذي يتسلل إلى كل شيء، وأن الإصلاح الاجتماعي هو الرغبة التي يقصد إليها الناس حين يئسوا من كل إصلاح آخر يعود عليهم بالخير.
ورأى أن هذا هو سبيل النهوض بالأمة، إذ لا نهوض لأمة بغير خلق، فإذا استطاعت الأمة أن تتشبع بروح الجهاد والتضحية وكبح جماح النفوس والشهوات أمكنها أن تنجح بمعنى أن الأمة إذا استطاعت أن تتحرر من قيود المطالب النفسية والكمالات الحياتية أمكنها أن تتحرر من كل شيء.
_______________________
مدير تحرير «الشعب» المصرية، و«المجتمع» الكويتية- سابقًا.