فتحت استقالة الجنرال أهارون حاليفا، رئيس المخابرات العسكرية الصهيونية (أمان)، الباب أمام موجة من الاستقالات داخل الجيش «الإسرائيلي»، في ظل توقع قادة عسكريين قدوم «تسونامي» داخل الكيان الذي تأسس على مجموعة من المفاهيم العسكرية، تمكنَّت حركة «حماس» من تفكيكها وتعريتها أمام العالم أجمع.
وضع بن غوريون حزمة من المرتكزات العسكرية لبقاء الكيان على الأراضي الفلسطينية المحتلة، عند إعلانه قيام دولة «إسرائيل»، تتمثل في تعزيز مستمر لقوة الردع أمام العالم العربي، ونقل المعركة إلى أرض العدو وإنهائها بسرعة، مع القيام بحروب خاطفة واستباقية، وهي قواعد تفرعت منها عقائد عسكرية أخرى، مثل الاعتماد على السلاح النووي كخيار حقيقي ورادع، وتدمير قوات العدو العسكرية ومعداته باعتبارها كنزاً إستراتيجيًّا.
الثابت أن عملية «طوفان الأقصى» نجحت وبقوة في إفشال هذه القواعد جميعها، وإجبار الكيان الصهيوني على تغيير عقيدته العسكرية، تمامًا، وهو ما فسره بوغي يعالون، وزير الدفاع الأسبق، بأن استقالة هاليفا صائبة وضرورية في الوقت نفسه، كونها ستفتح الباب أمام إجراء تعديلات جوهرية في المناهج الحربية «الإسرائيلية»، إذ فرضت «حماس» تحديًا جديدًا لمعايير القوة والضعف لـ«تل أبيب»، بعدما أحدثت زلزالًا إستراتيجيًّا، في 7 أكتوبر 2023م، رغم أن الجيش الصهيوني قد حل في المرتبة الـ18 بين أقوى جيوش العالم للعام نفسه.
1- سقوط مبدأ «قوة الردع»:
رغم مرور ما يزيد على 200 يوم كاملة على بدء «طوفان الأقصى»، فإن وسائل «حماس» العسكرية المحدودة وتكتيكاتها الهزيلة التي لا يمكن مقارنتها بالقدرات الصهيونية، فإن الحركة قد تسببت في التغيير الإجباري لأسس العقيدة العسكرية «الإسرائيلية»، بعدما كشفت أن قوة الردع الصهيونية مجرد وهْم، وأن استهداف مستوطنات غلاف غزة والتعمق لما يزيد على 40 كم داخل الأراضي المحتلة، يعني نقل المعركة إلى داخل «إسرائيل»، بل ضرب أجهزة الإنذار المبكر بطول الجدار الفاصل مع قطاع غزة، مع اختراق الكاميرات والرادارات وجُل الأجهزة العسكرية المتطورة والمنتشرة حول القطاع، فضلاً عن دخول عناصر «حماس» إلى قلب القواعد العسكرية؛ ما يؤكد تفكيك الكنز الإستراتيجي للكيان، وكشف كذب هالة التفوق والتقدم الإعلامية للأسلحة العسكرية «الإسرائيلية» حول العالم.
2- هزيمة الكيان الصهيوني في اعتماده على «الحروب الخاطفة»:
بمرور الوقت، لم يتمكن الضباط والجنود الصهاينة من الصمود أمام القتال داخل غزة، وطالبوا بخروجهم من القطاع لالتقاط أنفاسهم، والاشتياق لطعام أمهاتهم، مع تبادل الكتائب داخل غزة أمام حركات المقاومة، كما أشارت صحيفة «يديعوت أحرونوت»؛ ما يؤكد نظرية عدم نجاح «إسرائيل» في الحروب الطويلة، واعتمادها، دومًا، على حروب خاطفة، فضلًا عن أن الهجوم المفاجئ لـ«حماس» في «طوفان الأقصى» قد أثبت حقيقة استغلال عنصر المفاجأة في التعاطي مع الجيش الصهيوني، كما حدث في حرب أكتوبر 1973م، من الجيشين المصري والسوري، مثلما نجح «حزب الله» اللبناني في حربه مع الكيان في العام 2006، وفشل «تل أبيب» في الرد المفاجئ للحزب، آنذاك.
3- فشل استغلال عنصر «المفاجأة»:
الغريب أن يوسي بيلين، وزير العدل الصهيوني الأسبق، وأحد مهندسي «اتفاق أوسلو»، قد أكد هذا الأمر في مقال له بصحيفة «يسرائيل هايوم»، من أن نتنياهو ما يزال يكرر الأخطاء نفسها التي وقعت فيها غولدا مائير، وموشيه دايان، التي أدت إلى نجاح مصر في حربها ضد الكيان في عام 1973م؛ لافتًا إلى وجود تشابه كبير بين «طوفان الأقصى» وهذه الحرب!
بعيد حرب «الاستنزاف» اعتقدت غولدا بأن نظرية احتلال مساحات شاسعة من الأراضي المصرية والسورية والفلسطينية سيحول دون هزيمة بلادها، ويجعل «إسرائيل» في مأمن من الفشل العسكري والهزيمة؛ مع اعتمادها على الإدارات الأمريكية المتعاقبة في كسر حواجز كثيرة مع العالمين، العربي والإسلامي؛ إلا أن الجيش المصري ومن بعده حركة «حماس»، قد أفشلا هذه النظرية.
4- تفكك المجتمع وتغيير تركيبة النسيج الوطني الصهيوني:
الواضح أن «حماس» ومعها حركات المقاومة، ومن قبلها صمود الشعب الفلسطيني ذاته، في وجه الآلة العسكرية الصهيونية، قد كشف عن محور آخر لم يتطرق إليه البعض، ويتمثل في تفكيك المجتمع «الإسرائيلي» نفسه، وهو ما أوردته إذاعة الجيش «الإسرائيلي» من أن بلادها تسير نحو الهاوية وتفكك المجتمع، داعية إلى الإسراع في عقد صفقة مع «حماس» لإعادة المحتجزين في غزة، وتمثل ذلك في اختلاف أفراد الأسرة الواحدة في الكيان حول أهمية استمرار الحرب على القطاع من عدمه، وما بين وقفها وإعادة المحتجزين الصهاينة لدى «حماس»، وهنا، كثيرون داخل الكيان يرغبون في إنهاء الحرب الدائرة على غزة، إذ من بين أعضاء «كابينيت الحرب» الصهيوني على القطاع مَن يريد إنهاءها، فعليًّا، على رأسهم، غادي آيزنكوت، ومعه زعيم المعارضة، يائير لابيد، ومعهم معلقون عسكريون كُثر.
والمؤكد أن تجميد أموال المدارس الدينية اليهودية قد يفتح الباب أمام حالة غريبة وجديدة على المجتمع الصهيوني، ممثلة في تجنيد «الحريديم» بناء على قانون التجنيد، خاصة مع تهديد كبير الحاخامات السفارديم، يتسحاق يوسف، بأنه في حال تجنيد اليهود الأرثوذكس المتطرفين سيغادرون «إسرائيل» بشكل جماعي، وهو تهديد جديد على المجتمع الصهيوني، نجحت عملية «طوفان الأقصى» في التسبب فيه، باقتدار.
5- لم تعد «إسرائيل» المكان الآمن ليهود العالم:
لم يكن تهديد الحاخام يتسحاق يوسف مجرد تصريح لحظي يأتي على خلفية قانون التجنيد في بلاده، ولكنه بات حقيقة مؤكدة، خاصة أن الحريديم اعتمدوا منذ تكوين الدولة في العام 1948م، على عدم التجنيد في الجيش «الإسرائيلي»، ومع مرور 76 عامًا على قانونية عدم التجنيد، فإن الأمر سيبدو صعبًا عليهم في حال إلحاقهم بالعلمانيين في هذا الجيش، ما يوفر الفرصة المناسبة للخروج من الكيان، وزيادة الهجرة العكسية، فضلاً عن أمر آخر يتعلق بأن دولة الوطن القومي لليهود لم تعد توفر أمنًا استثنائيًا ليهود العالم، بعد عملية «طوفان الأقصى».
من هنا، فقدت «إسرائيل» غالبية مواطن قوتها العسكرية، ما بين الافتقار لعنصر المفاجأة، والقدرة على إدارة الحرب أمام عناصر المقاومة الفلسطينية، أو فقدان المنظومة السيبرانية في أوقات طويلة أثناء الحرب، كما انسحب الأمر على نقل المعركة داخل الأراضي المحتلة، ما يعني إلحاق الضرر الكامل بالعقيدة العسكرية الصهيونية.