تطرق المقالان السابقان إلى موجة الفتوحات الإسلامية في أوروبا، حيث دخل المسلمون إلى الأندلس من البوابة الغربية في العهد الأموي عام 711م، وبعد قرن ويزيد (عام 827م) من البوابة الجنوبية صقلية وجنوب إيطاليا في العهد العباسي وتحديداً زمن الدولة الأغلبية.
والسؤال: ما الأثر الذي تركته هذه الموجة من الفتوحات على أوروبا؟
أول ما يشار إليه في هذا السياق أنه لم تشهد هذه الفتوحات إبادة جماعية للشعوب الأوروبية التي وصلها الإسلام؛ الأمر الذي ينفي في حد ذاته الفكرة الرائجة بأن الإسلام انتشر بقوة السيف، وهو تشويه مقصود لفلسفة الإسلام القائمة على احترام حرية المعتقد؛ (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256)، وحتى إن استُعمِلتْ القوة في ذلك الوقت، فلكسر الحاجز الذي نصبه المستبدون في وجه نشر رسالة الإسلام التي جاءت رحمة للعالمين.
بل إن قراءة تاريخية موضوعية تثبت بأن الفتوحات فرضت الحرية للشعوب التي كانت ترزح تحت الاستبداد، علاوة على نشر الإسلام بثقافته السمحة، كما أسهمت هذه الفتوحات في إرساء حضارة إسلامية عريقة.
وتتنوع مظاهر الحضارة الإسلامية، حيث أبدع السلمون في العلوم الكونية والإنسانية؛ إدراكاً منهم بأن العلم في الإسلام لا يقتصر على العلوم الشرعية والفقهية، بل يتعداه إلى كل علم نافع للإنسان في حياته ومماته.
وفي هذا المقال، نتوقف عند جانب من عظمة الحضارة الإسلامية التي استمرت مئات السنين وما زالت آثارها شاهدة على هذه العظمة؛ وهو فن العمارة.
فن العمارة الإسلامية
يعتبر فن العمارة الإسلامية من أعظم مظاهر الحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية.
ففي الأندلس، برع المسلمون في تشييد المساجد بقبابها ومآذنها، كما اهتموا بتعميرها وبإشعاعها لتكون دُوراً للعبادة وللعلم، ومن أهمها مسجد قرطبة وهو صورة للمسجد الأموي بدمشق، شيده الأمير عبدالرحمن الداخل، ويُعدّ من أعظم المساجد في التاريخ الإسلاميّ(1).
كما برعوا في تشييد المدن الجميلة كمدينة الزهراء وقرطبة وغرناطة وأشبيلية بكل ما في هذه المدن من مبانٍ ودورٍ للسكن وحدائق وأسواق ومدارس ومكتبات ومستشفيات، وأشار الخليفة عمر بن عبدالعزيز على الوالي السمح بن مالك الخولاني بترميم وإعادة تشييد قنطرة قرطبة نظرًا لأهمية موقعها، حيث إنّها تصل بين شمال الأندلس وجنوبها(2).
وعلى امتداد السواحل وحول المدن، أقيمت أبراج وقلاع للتحصين من العدو، وعند التعرّض لخطر توقد النيران إعلانًا للحرب، سُميت قلعة أيوب الواقعة في جنوبي سرقسطة بهذا الاسم نسبة لأمير الأندلس (أيوب بن حبيب اللخمي) وتُعدّ من الأمثلة البارزة على هذه القلاع.
كما شهدت العمارة الأندلسية تشييد قصور مشهورة بالحدائق ونوافير المياه والصالونات الفريدة المرخّمة والجدران المزخرفة والغرف والإسطبلات، وتشهد على حرفية المهندسين وخبراتهم العظيمة، ومن أهم القصور قصر الحمراء في غرناطة الذي يعد تحفة عمرانية ومَعْلماً سياحياً دولياً.
كما شهدت صقلية التي فتحها المسلون في القرن التاسع الميلادي فناً معمارياً متطوراً، حيث شيدت المدن الصقلية بعمارة جميلة وفيها المساجد والحمامات والفنادق والمباني الفخمة التي شيدت على الطراز العربي وزينت بالرخام الثمين والفسيفساء الزاهرة، علاوة على القصور مثل قصر سعد وقصر جعفر(3).
تشويه المعالم العمرانية ذات الطابع الديني
تجدر الملاحظة بأن هذا الفن المعماري الإسلامي الرائد في كل من الأندلس وصقلية، تم توظيفه في مرحلة ما بعد انهزام المسلمين وتراجعهم الحضاري، بما يخدم مصلحة الطرف المسيحي المنتصر.
حيث تم الاحتفاظ بالقصور وجمالها والحدائق ورونقها مثل قصر الحمراء في غرناطة.
وفي صقلية التي احتلها النورمان بعد الفتح الإسلامي، أبقيت القصور على طابعها المعماري العربي الإسلامي، بل إن الملوك النورمان في صقلية أقاموا في قصور بناها العرب، مثل قصر «البحر العذب» في بالرمو، كما شيد لهم المهندسون المعماريون العرب قصورًا جديدة في بالرمو على الطراز العربي الإسلامي مثل قصر «العزيزة» الذي شيد في عهد وليام الأول، وقصر «القبة» الذي شيد في عهد وليام الثاني، بل أسهم المعماريون العرب المسلمون في تشييد الكنائس والأديرة وزينوها بالفسيفساء العربية.
كما استمرت المدن الصقلية التي تحوي الحمامات والفنادق والمباني الفخمة التي شيدت على الطراز العربي وزينت بالرخام الثمين والفسيفساء الزاهرة.
أما المعالم التي تحمل الطابع الديني مثل المساجد أساساً، فقد لحقها التشويه في أغلب الحالات لمسخ الهوية الإسلامية مقابل إبراز الطابع المسيحي.
ويبدو هذا التشويه جلياً في العديد من المعالم الدينية الإسلامية في الأندلس، ففي إشبيلية حوَّل المسيحيون جامع إشبيلية الكبير إلى كاتدرائية مع الاحتفاظ بالشكل المعماري للمئذنة، لكن أدخلوا على المئذنة تغييرات مثل وضع تمثال من البرونز (أكبر منحوتة برونزية في عصر النهضة الأوروبية) على برج المئذنة تعلوه جيرالديلو (ريشة الطقس أو ريشة الرياح الصغيرة)، التي تعد أشهر رمز للمدينة وسميت بها الكاتدرائية، إضافة إلى وضع ما مجموعه 24 جرساً في أعلى المئذنة(4).
خيرلدا (Giralda)
أما في قرطبة، فمع الاحتفاظ بالشكل المعماري للمسجد، حصلت تحويرات داخله، وأقيم قداس مسيحي في قلب المسجد باسم التسامح الديني، وتماثيل لتشويه الطابع الديني لهذا المعلم الإسلامي التاريخي الذي كان منارة للإسلام ديناً وعلماً.
يقام اليوم داخل مسجد قرطبة قداس ديني مسيحي باسم التسامح الديني.
ولم تكن لعملية تشويه المعالم الدينية الإسلامية في الأماكن التي فتحها وحكمها المسلمون بالقارة الأوروبية أن تحصل لولا تراجع وزن المسلمين وتشتت كلمتهم وصفوفهم وفتنتهم مظاهر الدنيا وزخرفها.
وماذا عن الجوانب الأخرى للحضارة الإسلامية في كل من الأندلس وصقلية من حيث تطور العلوم الكونية والإنسانية؟
هذا ما نتطرق إليه في مقال قادم بإذن الله تعالى.
____________________________
(1) من بين المساجد الأندلسية المشهورة:
– مسجد الرايات؛ بناه موسى بن نصير في رمضان 93هـ، ويُعدّ من أوائل المساجد التي أُقيمت في الجزيرة الخضراء الموقع الذي اجتمع فيه رايات القوم للتشاور في العديد من الأمور.
– مسجد سرقسطة؛ الواقع في شمالي الأندلس، اُشتهر أيضًا باسم الجامع الأبيض، قام بتشييده حنش الصنعانيّ الذي يُوصف بأنه من أمهر مهندسي المساجد، وقد قام بتجديده الأمير محمد ليبقى من أهم المعالم الإسلامية في الأندلس حتى انتهاء عهد الدولة الإسلامية فيها.
(2) يعدّ إعادة تشييد قنطرة قرطبة من أول الأعمال العمرانية التي قام بها المسلمون في الأندلس باستخدام حجارة سور المدينة، بالإضافة لاستعمالهم مادة اللبن الناتج من حرق الطين في ترميم أسوارها بالرغم من ضعف متانته مقارنة بالحجر، امتازت القنطرة بوجود الكثير من الأماكن الجميلة ولذلك كانت متنزهًا يرتاده أهل قرطبة، كما أنّها تُعدّ من الشواهد البارزة على تقدّم العمارة الإسلامية على مرّ العصور حتى وقتنا الحالي (منقول بتصرف).
(3) نقل الرحالة الشهير ابن حوقل، صاحب الموسوعة الجغرافية «صورة الأرض»، خلال زيارته لصقلية في غضون القرن الرابع الهجري صورة متقنة عن الأحوال الاجتماعية والعمرانية لصقلية في ذلك الوقت، خاصة مدينة بلرمو التي لاحظ فيها كثرة المساجد والمعلمين، ورأى أن عدد المساجد في بلرمو آنذاك زاد على 200 مسجد، ومن شدة اندهاشه من هذا العدد أكّد أنه لم يرَ مثل هذا العدد في بلد من البلدان الكبار اللهم إلا قرطبة عاصمة الأندلس التي اشتُهرت حينذاك بكثرة المساجد.
(4) خيرالدا تعدّ الكاتدرائية الإسبانية التي تحتوي على أكبر عدد من الأجراس.