يقول الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 158)، السعي بين الصفا والمروة شعيرة فرضها الله عز وجل في الحج والعمرة، وأوجب على المسلمين تعظيمها في نفوسهم وطقوسهم، وفي الحج والعمرة الكثير من العبر والدروس التي يجب أن يتعلمها المسلم لتكون له منهاجاً ونبراساً في الحياة، فهنا تسعى بين جبلين، وهناك تصعد جبلاً، وهنا تقبل حجراً، وهناك تلقي بحجر، منها ما هو واضح مقصده، ومنها ما خفي في علم الله نتعبد له سبحانه به بالطاعة المطلقة دون فهم ودون بحث، نطيع لتسليم القلب والعقل والجسد لله سبحانه تسليماً اختيارياً خالصاً.
ومن المشاعر التي شرعها الله عز وجل للمسلمين في الحج والعمرة شعيرة السعي، فما أصلها؟ وما الدروس المستفادة منها؟
السيدة هاجر عليها السلام وقصة السعي
زوجة ثانية، ارتبط بها نبي الله إبراهيم عليه السلام في كبره ولم يكن لديه أبناء من زوجته الأولى، ثم يرزق بطفل ما زال رضيعاً بعد، فكيف تكون مكانتها في قلبه؟ وكيف تكون أثيرة لديه؟ وكيف يكون قربه منها وملازمته لها حتى يطمئن على وليدها الذي انتظره سنوات طويلة؟
يأتي الزوج النبي المستسلم لأمر ربه بين تلك المشاعر جميعها ليصحبها، إلى أين؟ لعمق صحراء لا ماء فيها ولا زاد ولا بشر، تصاحبه الزوجة المؤمنة المستسلمة لأمر ربها كذلك، تسير معه إلى حيث يريد رب العالمين وهي مطمئنة لأمر في قلبها، أمر يتعلق بالسماء لا بالأرض، بالإيمان لا بحب زوجها التائق لابنه المنتظر، متعلق بالله الذي لن يضيعها.
الصحراء شاسعة، والحر شديد، والطريق الوعر فارغ من أنفاس البشر وأصواتهم، وصلوا المكان ليستدير ويستعد للمغادرة، ماذا فعلت هاجر لتستحق ذلك المصير؟ يقولون: لغيرة ضرتها فأبعدتها! ونقول: بل لمكانة أرادها الله لهم، لتصنع للأمة منسكاً يتعبدون به لله إلى يوم القيامة، لتعلم العالمين وهي المرأة الضعيفة، أن الإيمان حين يتمكن من القلب تصير أفعال المرأة عبادة تتعبد بها الأمة.
استدار ليرحل ويتركهم بالقليل من الزاد، والقليل من الماء، مهما بلغ فهو قليل، إنه قدر ما يحمل الرجل ولو كان نبياً، كم سيكفي؟ عدة أيام؟ ربما، لكنها في حساب الزمن أيام وسوف ينتهي في صحراء تحيطها الجبال من كل جانب، تبث من أرضها الفارغة نار حرارة الشمس ليس أكثر، لا ظل أشجار، لا نبع ماء يؤمن حياتها ولو لبضعة أيام أخرى، لا طريق معروف يمر به الناس لينقذوها إن هي أشرفت على الهلاك جوعاً، أو أشرف وليدها على الموت المحقق عطشاً.
يستدبرهم إبراهيم عليه السلام ويرحل، فهل كان حزيناً؟ هل كان مفطوراً على وحيده؟ هل فكر في التراجع وضم ابنه لصدره وحمله إلى حيث يعود؟ هل كان أباً مفطوراً؟ أم مؤمناً مستسلماً لأمر ربه واثقاً في حكمته ورحمته؟
وما كان شعور هاجر كأُم؟ هل ضجرت من كونها زوجة نبي؟ هل خافت على ابنها من وحوش الصحراء؟ هل ألقت باللوم على زوجها صاحب الرسالة واتهمته بفقدان القلب والرحمة فيترك زوجته وابنه في قلب الصحراء؟ هل تعلقت به لتمنعه عن الرحيل وتركهم؟ هل كالت له الاتهامات ورفعت صوتها وبكت وانهارت؟ لو كانت فعلت، ما ألقى أحد باللوم عليها، فهي ليست مجرد امرأة، إنها أم تحمل رضيعاً يمكن أن تفديه بروحها دون تفكير، لكنها لم تفعل، أرادت فقط الاطمئنان.
وصارت الصحراء أماً للقرى
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جاءَ إِبْرَاهِيمُ ﷺ بِأُمِّ إِسْمَاعِيل وَبابنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِي تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فوْقَ زَمْزَمَ في أَعْلَى المسْجِدِ، وَلَيْسَ بمكَّةَ يَؤْمئذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوضَعَهَمَا هُنَاكَ، وَوضَع عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيه تَمرٌ، وسِقَاء فِيهِ مَاءٌ. ثُمَّ قَفى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فتَبِعتْهُ أُمُّ إِسْماعِيل فَقَالَتْ: يَا إِبْراهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وتَتْرُكُنَا بهَذا الْوادِي الَّذِي ليْسَ فِيهِ أَنيسٌ ولاَ شَيءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلكَ مِرارًا، وَجَعَلَ لاَ يلْتَفِتُ إِلَيْهَا، قَالَتْ لَه: آللَّهُ أَمركَ بِهذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَت: إِذًا لاَ يُضَيِّعُنا، ثُمَّ رجعتْ.
فَانْطَلقَ إِبْراهِيمُ ﷺ، حَتَّى إِذا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حيْثُ لاَ يَروْنَهُ. اسْتَقْبل بِوجْههِ الْبيْتَ، ثُمَّ دَعَا بهَؤُلاءِ الدَّعواتِ، فَرفَعَ يدَيْه فقَالَ: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ حتَّى بلَغَ يشْكُرُونَ) (إبراهيم: 37).
وجعلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيل تُرْضِعُ إِسْماعِيل، وتَشْربُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ، حتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وعَطِش ابْنُهَا، وجعلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يتَلوَّى أَوْ قَالَ: يتَلَبَّطُ فَانْطَلَقَتْ كَراهِيةَ أَنْ تَنْظُر إِلَيْهِ، فَوجدتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جبَلٍ في الأرْضِ يلِيهَا، فَقَامتْ علَيْهِ، ثُمَّ استَقبَلَتِ الْوادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرى أَحدًا؟ فَلَمْ تَر أَحدًا. فهَبطَتْ مِنَ الصَّفَا حتَّى إِذَا بلَغَتِ الْوادِيَ، رفَعتْ طَرفَ دِرْعِهِا، ثُمَّ سَعتْ سعْي الإِنْسانِ المجْهُودِ حتَّى جاوزَتِ الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المرْوةَ، فقامتْ علَيْهَا، فنَظَرتْ هَلْ تَرى أَحَدًا؟ فَلَمْ تَر أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْع مرَّاتٍ، قَال ابْنُ عبَّاس: قَال النَّبيُّ ﷺ: «فَذَلِكَ سعْيُ النَّاسِ بيْنَهُما»،
فلَمَّا أَشْرفَتْ علَى المرْوةِ سَمِعتْ صَوْتًا، فَقَالَتْ: صهْ تُرِيدُ نَفْسهَا ثُمَّ تَسمعَتْ، فَسمِعتْ أَيْضًا فَقَالتْ: قَدْ أَسْمعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدكَ غَواثٌ فأَغِث. فَإِذَا هِي بِالملَكِ عِنْد موْضِعِ زمزَم، فَبحثَ بِعقِبِهِ أَوْ قَال بِجنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الماءُ، فَجعلَتْ تُحوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيدِهَا هَكَذَا، وجعَلَتْ تَغْرُفُ المَاءَ في سِقَائِهَا وهُو يفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرفُ وفي روايةٍ: بِقَدرِ مَا تَغْرِفُ.
قَال ابْنُ عبَّاسٍ: قالَ النَّبيُّ ﷺ: «رحِم اللَّه أُمَّ إِسماعِيل لَوْ تَركْت زَمزَم»، أَوْ قَالَ: «لوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ، لَكَانَتْ زَمْزَمُ عيْنًا معِينًا»، قَال: فَشَرِبتْ، وَأَرْضَعَتْ وَلَدهَا.
فَقَال لَهَا الملَكُ: لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَة فَإِنَّ هَهُنَا بَيْتًا للَّهِ يَبْنِيهِ هَذَا الْغُلاَمُ وأَبُوهُ، وإِنَّ اللَّه لاَ يُضيِّعُ أَهْلَهُ، وَكَانَ الْبيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الأَرْضِ كَالرَّابِيةِ تأْتِيهِ السُّيُولُ، فتَأْخُذُ عنْ يمِينِهِ وَعَنْ شِمالِهِ. فَكَانَتْ كَذَلِكَ حتَّى مرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمْ، أَوْ أَهْلُ بيْتٍ مِنْ جُرْهُمٍ مُقْبِلين مِنْ طَريقِ كَدَاءَ، فَنَزَلُوا في أَسْفَلِ مَكَةَ، فَرَأَوْا طَائرًا عائِفًا فَقَالُوا: إِنَّ هَذا الطَّائِر ليَدُورُ عَلى مَاءٍ لَعهْدُنَا بِهذا الوَادِي وَمَا فِيهِ ماءَ فَأرسَلُوا جِريًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ، فَإِذَا هُمْ بِالماءِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهم فَأقْبلُوا، وَأُمُّ إِسْماعِيلَ عِنْدَ الماءَ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ ننزِلَ عِنْدكَ؟ قَالتْ: نَعَمْ، ولكِنْ لاَ حَقَّ لَكُم في الماءِ، قَالُوا: نَعَمْ.
قَال ابْنُ عبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَأَلفى ذلكَ أُمَّ إِسماعِيلَ، وَهِي تُحِبُّ الأُنْسَ، فَنزَلُوا، فَأَرْسلُوا إِلى أَهْلِيهِم فنَزَلُوا معهُم، حتَّى إِذا كَانُوا بِهَا أَهْل أَبياتٍ، وشبَّ الغُلامُ وتَعلَّم العربِيَّةَ مِنهُمْ وأَنْفَسَهُم وأَعجَبهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْركَ، زَوَّجُوهُ امرأَةً منهُمْ..» (رواه البخاري).
وعلمتنا هاجر
– الثقة بالله: الإنسان عامة يقيس الأشياء بقدراته المحدودة، وقليلون هؤلاء الذين يرجعون كل فعل لقدرة الله عز وجل، ربما يكون عتاد العدو كبيراً، لكن قوة الله أكبر، ربما يكون الأمر شاقاً، لكنه على الله هين، أرادت هاجر أن تعلم فقط أنها إرادة الله وليست إرادة إبراهيم، فاطمأنت، وقالت بإيمان مطلق: «إذن لن يضيعنا»؛ ففجَّر لها ماء زمزم وخلد سعيها، ولو أنها جزعت وهرعت لما تنعمنا اليوم ببركة ماء زمزم! لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى عند البخاري: «بركة بدعوة إبراهيم» (رواه البخاري).
– حق التوكل: ألم يكن الله عز وجل أن يفجر بئر زمزم دون هذا العنت والتعب والسعي 7 أشوط بين جبلي الصفا والمروة وهي المرأة المرضعة الضعيفة؟ بلى كان قادراً، فما الحكمة إذن من ذلك الجهد المبذول؟ كي تتعلم الأمة أن التوكل والإيمان والثقة بالله يلزمها العمل مهما بلغت درجة إيمانك، تبذل الأسباب وقلبك معلق برب الأسباب، تحقق سنن الله فتغرس الأرض كي تنتظر الثمار متوكلاً، تحمل السلاح وتجاهد لترفع لواء الله وأنت مطمئن أن الله سينصرك، فلا نصر لقاعد، ولا زاد لمتكاسل، عليك أن تبذل الجهد كله، لكن الله وحده هو الذي يكلل جهدك بالنجاح والتوفيق.