جرى بيان كون المقاومة تعبيرًا عن المدافعة بين الناس، وأنّ هذه المدافعة لا بدّ منها لاستنقاذ البشرية من الفساد، ومنع الفساد من الإطباق على العالم، وهو ما يمنح القيمة الكبرى لجماعات المؤمنين الذين ينهضون بواجب المقاومة، مهما قلّ عدد أفرادها وضَعُفَ عتادُها، بل حتى لو نهض بذلك أفراد معدودون، وهو المعنى المستفاد من قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لَا يَزَالُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».
وفي حين اختلف الفقهاء والشراح في شأن هذه الطائفة الظاهرة على الحقّ بين أصناف جماعات المؤمنين من فقهاء ومحدثين ومعلمين ومجاهدين وآمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، وذهاب بعضهم إلى أن الطائفة مفرقة بين هؤلاء كلهم ومفرقة في الأرض، فإنّ في طرق أخرى للحديث نصًّا على القتال، الذي هو ذروة المدافعة، وذروة سنام الإسلام، وذروة الاستعلان بالحق والظهور به، ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ».
وإذا كان الظهور يحتمل معاني الشهرة وعدم الاستتار، ومعاني الغلبة والانتصار، فإنه يحمل معنى الاستمرارية والمواصلة، وهذا المعنى يتضمن معنى الغلبة، لأن الباطل والطغيان لن يقدر على استئصال جماعات المؤمنين القائمين بالحق المفرَّقين في الأرض، والممتدين في الزمان.
المدافعة بالقتال
وقد سبقت الإشارة إلى موقع آية دفع الفساد عن الأرض؛ (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: 251)، من حيث كونها تعقيبًا قرآنيًّا على دور الجماعات الصغيرة المحلّية في التدافع العالمي، وأنّ ذلك التعقيب كان على موقعة حربية، قتل فيها داود عليه السلام جالوت، فالظهور بالحقّ هنا أخذ شكل القتال، وهذا القتال كان محلّيًّا موضعيًّا، ولكنه كان عالميًّا في أثره من جهة دفع الفساد عن الأرض بما هي مسكونة بالعالمين.
هذا القتال رافعة للمدافعة وذروة لها، نصّ عليه القرآن في تحوّلات الحركة النبوية المباركة نحو القتال، وفي سياق الدفاع عن الحق ومواجهة التهجير والإخراج من الديار والأبناء في نقطة اتصال مع قوم طالوت الذين طالبوا الإذن بالقتال لأنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم؛ (قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا) (البقرة: 246).
وكذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصحابته رضوان الله تعالى عليهم، أذن لهم بالقتال بعدما أخرجوا من ديارهم، وقد كان هذا القتال مدافعة في الوصف القرآني؛ (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ {39} الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج).
وإذا كانت الآية الخاصة بقصة قوم طالوت، وداود عليه السلام؛ قد جعلت المدافعة وسيلة لدفع الفساد عن الأرض، فالآية المتعلقة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته وسيلة للحفاظ على بقاء المساجد والصلوات، وقد اختلف المفسرون في ذكر الصوامع والبيع مع المساجد، فذهب بعضهم إلى أنها أماكن العبادة في أزمنة الأنبياء الماضين قبل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلولا جهاد هؤلاء الأنبياء والمؤمنين الذين معهم لهدمت صوامعهم وبيعهم التي يُذكر الله تعالى فيها، وذهب بعضهم إلى أنها تسميات أخرى لمساجد المسلمين، وذهب بعضهم إلى أنها تسميات لمعابد أهل الكتاب الذين هم في ذمة المسلمين.
وعلى أي حال، ومهما كان الأمر، فإنّ المدافعة بالقتال وحدها التي حالت دون انحطاط الكرامة الآدمية بالعبودية لغير الله، وهو ما قاله سيدنا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بين يدي غزوة «بدر»: «اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»، فإن العبودية لله شرط الحرية الإنسانية وضمان الكرامة الآدمية بحيث لا يستعبد الناس بعضهم بعضًا، وقتال جماعات المؤمنين للظلم والطغيان شرط ألا تفرض القوّة المادية الأكبر قيمها وثقافتها على الأرض فتندرس المعابد والصلوات ويفقد البشر قدرتهم على الاختيار.
والثابت أن هدم المساجد وتغيير وظائفها قد حصل في الأزمنة الماضية والقريبة، وفي فلسطين حوّل الاحتلال بعض المساجد إلى إسطبلات وخمارات، وقسّم المسجد الإبراهيمي، ويسعى إلى تقسيم المسجد الأقصى أو هدمه.
وليست القضية في حوادث محدودة، ولكن القضية أن احتلال فلسطين جزء من مشروع الهيمنة الغربية، وعلى رأسها أمريكا، على العالم، وانتصار هذه الهيمنة واستقرار الأمر لها في فلسطين؛ يعني أن تطبق على العالم، وأن تصادر بقواها الخشنة والناعمة، وتغلغل ثقافتها في البشرية، من البشر قدرتهم على الاختيار، ومن المسلمين صلابتهم الدينية وقدرتهم على الإشعاع بالنور والهداية للبشرية.
ولذلك فالمقاومة في فلسطين آخر قلاع المسلمين لمنع إطباق القيم الغربية والصهيونية السياسية عليهم، وآخر قلاع البشرية لأجل كرامة البشر وحريتهم.