النصر مفهوم إسلامي عظيم يحمل في طياته العديد من المعاني والدلالات، وهو يشير إلى الانتصار والتمكين الذي يمنحه الله تعالى لعباده المؤمنين، ويتكرر مفهوم النصر في القرآن الكريم في العديد من الآيات والسور.
والهجرة كانت فتحًا ونصرًا، وإننا في أيامنا هذه لفي حاجة ماسة إلى استلهام منهجية النصر التي قامت عليها الهجرة المباركة، لنعرف أين نحن وفي أي طريق نسير، فالهجرة لم تكن مجرد قصص يحكى، أو تاريخ يتلى، أو قصص للتسلية والاطلاع، وإنما كانت منهجية نصر ثابتة، ملهمة لكل العصور والأزمان.
والنصر في القرآن الكريم مفهوم واسع وشامل، ويتعدى المعنى المادي الظاهر إلى المعاني الباطنة والقلبية والاجتماعية والدينية، وإن تحقيق النصر الحقيقي يتطلب من المؤمنين الالتزام بتعاليم الإسلام والعمل الجاد والسعي الدؤوب في سبيل الله.
فالثبات حتى الممات من أعظم صور النصر حيث يصل السالك إلى بر الأمان وأمانته محفوظة ورايته مرفوعة، وهذا الرجل من بني إسرائيل جاء من أقصى المدينة يسعى بالإيمان (قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُوا۟ ٱلۡمُرۡسَلِینَ) (يس: 20)، فما كان منهم إلا أن قتلوه فذكر القرآن لنا دلائل فوزه ونصره؛ (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ {26} بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (يس).
والشهادة في سبيل الله مقام صدق يرفع الله به من اصطفاهم من عباده إلى درجة الرضوان ويمنحهم النصر الحقيقي بجعلهم حجة على الخلق ومقاماً يوم العرض، قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169).
وإن من قواعد منهجية الهجرة في النصر ما يلي:
1- لا تمكين قبل التضحية والمجاهدة:
أدرك الصحب الكرام أن الإسلام العظيم يستحق التضحية بكل غالٍ وثمين، فهانت عليهم نفوسهم رخيصة في سبيل الله، وأموالهم فداءً لدين الله، وأولادهم جنوداً يدافعون عن راية الإسلام، فعلَّموا الأمم الباحثة عن النصر أن الموت في سبيل الله ليس مصابًا يستحق العزاء، وأن البذل في سبيل الله ليس بلاءً يستحق الرثاء، وإنما هذه التضحيات من أبواب الشرف المستحق للسعادة والاحتفاء.
والأمة التي لا تقدم أبناءها في ساحة الشرف كرامًا، ستفقدهم حتمًا في ساحة الخسة والدناءة والخيانة.
2- الأخذ بالأسباب ليس نافلة بل من الواجبات:
منحنا الله إمكانات، وأوجب علينا الإفادة منها، واستخدامها في إعمار الأرض بدين الله تعالى، وأن التقصير في الأخذ بالأسباب المتاحة معصية لمن أودعها في جنباتنا وفضلنا بها على كثير من خلقه.
ومن هنا أدرك الأصحاب أن التخطيط والأخذ بالأسباب ليس خيارًا لمن أراد النجاح، ولا احتمالاً لمن أراد الفلاح، وإنما هو طريق لا بد من سلوكه، ومرتقى لا بد من عروجه، فالله يعاقب المقصرين المفرطين كما يعاقب المعتدين الآثمين، وإذا كان فسطاط الكفر والنفاق قدر في الدنيا، فإن أهل الإيمان قدر الخير والهداية والتمكين، قال تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: 251).
3- النصر جهد أمة وليس عملاً فردياً:
لم تكن الهجرة عملاً فرديًا، أو بطولة شخصية، وإنما كانت لوحة فنية راقية، لكيفية استثمار الإمكانات المتعددة والطاقات المتغيرة والشرائح المتناثرة، ففيها بذَل الرجال والنساء، وشاركت المرأة في صناعة المشهد أيما مشاركة، وساهم الشباب فكان لهم أوفر الحظ والنصيب، مع حكمة الشيوخ وخبرة الأيام، وبراعة القائد وتوكله على الرحمن.
ومن هنا أدركت الأمة أن نهضتها وريادتها تحتاج إلى تكاتف كل القوى، والإفادة من كل الطاقات، واستثمار كل الإمكانات، وليس حكرًا على أحد، أو خاصًا بمجموعة أو طائفة، بل لا بد من استنهاض كل الهمم، دون إبعاد أو إقصاء أو اصطفاء.
4- النصر ليس مجرد أمل ولكنه اعتقاد جازم:
مع الأخذ بالأسباب المتاحة، فإن النصر معقود بأمر مُهديه، وإذن مُسديه، وفضل مُؤتيه، لذا فالنصر عقيدة راسخة في نفوس المؤمنين وإن ذهبت أسبابهم، وقلت حيلتهم، وتكالب عليهم أراذل الخلق وأحزاب الشيطان.
فهم بعد بذل الجهد المتاح ينسون ما بذلوه من أسباب، ويتعلقون بمن خلق الأسباب، طالبين حبال إمداده، ووفود جنوده، وخيل نصره، ولسان حالهم ينادي في كل خائف، ويطمئن كل قلق، ويثبِّت كل مأزوم.
5- اليقين باب الوصول للنصر والتمكين:
لا يمكن للنصر أن يتحقق إلا إذا استقرت أمواج النفوس، وتوقفت عواصف الشكوك، واطمأنت القلوب لوعد ربها، وسكن الفؤاد بذكره، واستوى على جودي تدبيره، وتشرَّب بالثقة في لطفه وحسن تقديره.
باليقين تتصاغر قوى الأعداء مهما كثر عددها وتنوعت صورها، لأن المؤمن يدرك أن وراء كل قوة رب قوي قاهر، قال تعالى: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) (فصلت: 15).
6- بعد إرادة الإقصاء كان الارتقاء:
أراد حلف الشيطان وحزبه للدعوة ورائدها حبسًا خلف القضبان، أو نفيًا في القفار والبلدان، أو قتلاً ووأدًا تحت الثرى بغية النسيان، ولكن نسي القوم أن هذا الكون ليس فيه الناس فحسب، ولكن هناك رب الناس يحصي ويكتب، يقدِّر ويدبر، فلا راد لأمره ولا مبدل لحكمه، أراد لدعوته البقاء والارتقاء، فطمأن قلوب عبادة بقوله: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف: 8).
7- بعد التخفي والحذر.. طلع البدر علينا:
بعد الحذر والقلق كان الأمن والفرج، بعد التخفي والاحتياط كان الظهور والاغتباط، بعد التربص والمطاردة كانت الرفعة والمناصرة، بعد التشويه والإرجاف كانت البراءة والإتحاف، بعد أن همس الصدِّيق: «لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا»، كانت: «طلع البدر علينا من ثنيات الوداع».
هذا هو الطريق، وهذه منهجيته ومعالمه، فأبشروا بالخير، واستمسكوا بنور الله الذي آتاكم، وثقوا فيمن على طريق الحق أوقفكم.
واعلموا أن الأمة تتهيأ لنصر وتمكين، واستعادة دورها الحضاري، فأعدوا أنفسكم لمنحة الاستعمال والاستخدام، وعلى قدر ما يُبذل من إعداد سيفتح الله تعالى باب الإمداد، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: 69)، فبقدر صدق إقبالك علينا، نفتح لك أبواب الدخول علينا.