يثير ظهور الإلحاد في دول الخليج تساؤلات حيرة حول أسباب هذه الظاهرة ودوافعها؛ ففي ظلّ مجتمعات عُرِفت بتدينها والتزامها بتطبيق الشريعة الإسلامية، يبدو هذا التحول مفاجئًا ويستدعي فهمًا عميقًا لجذوره.
وتزداد حدة الظاهرة مع اتّخاذ منصات التواصل الاجتماعي كمنابر رئيسة لنشر الأفكار الإلحادية، حيث برز في الأعوام القليلة الماضية أشخاص مثل «أ. ك» من البحرين، و«م. ا» من الإمارات، و«ر. ا» من السعودية، وغيرهم ممن جاهروا بإلحادهم ودشنوا صفحات لذلك على مواقع التواصل الاجتماعي، بل قاد بعضهم حملات للتمرّد على القيم والمعتقدات الدينية.
ورغم أن الحركات الإلحادية تظل محصورة في دوائر ضيقة، ولا تمثل تهديدًا شاملاً للدين أو للثقافة المتدينة في الخليج بشكل عام، فإنها تستحق فهمًا عميقًا لأسبابها وتأثيراتها المحتملة على الهوية الثقافية والدينية للمجتمعات المحلية.
لماذا يلحدون؟
قد يبدو السؤال عن سبب الإلحاد في دول الخليج مفاجئًا، خاصة أن هذه الدول تُعرف بالتزامها بتطبيق الشريعة الإسلامية والمحافظة على تقاليد المجتمع وعاداته، ومع ذلك، فإن هناك فئة من المواطنين تبتعد عن الإسلام، وهذا يثير التساؤل.
يعزو البعض انتشار هذه الظاهرة إلى التربية الصارمة والتطبيق المتشدد للقيم الدينية داخل الأسر وفي المجتمع بشكل عام؛ ما يؤدي إلى ردود فعل سلبية قد تجعل بعض الأفراد يتجهون نحو الإلحاد بدلاً من التدين المفرط.
ويُعزى انتشار الإلحاد أيضًا إلى دور وسائل الإعلام الحديثة ومنصات التواصل الاجتماعي التي ساهمت في نقل هذه الأفكار من السرية إلى العلن، وزادت من تأثيرها وانتشارها بين طبقات مختلفة من المجتمع السعودي؛ ما جعلها تتفاعل بشكل أكبر وأكثر حيوية مما كانت عليه في الماضي.
ومن وجهة نظر المتخصصين، هناك أسباب أخرى، وفقًا لما أوردته الدراسات المتنوعة التي تبحث في ظاهرة الإلحاد بمجالاتها العلمية والفلسفية والاجتماعية المتعددة:
تعتبر طبيعة الخطاب الديني الصادر عن بعض المؤسسات الدينية من الأسباب الأساسية التي تساهم في انتشار ظاهرة الإلحاد، فبعض الخطابات المتشددة والمغلفة بالتفسيرات الصارمة تفتقر إلى المرونة اللازمة لمواكبة تطلعات الشباب وطموحاتهم؛ ما يدفع البعض إلى البحث عن بدائل خارج الإطار الديني التقليدي، هذا الانفصال بين الخطاب الديني ومتطلبات العصر يساهم بشكل مباشر في إبعاد البعض عن الدين والاتجاه نحو الإلحاد.
تشكل وسائل التواصل الاجتماعي منابر قوية لنشر الأفكار والمعتقدات بدون رقابة مجتمعية صارمة، مما مكن الملحدين في الخليج من استخدام منصات مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب» والمدونات لنشر أفكارهم وبث سمومهم الفكرية بين فئة الشباب، وقد ساهمت هذه المنصات في تعزيز شعور الأمان والقبول الاجتماعي للملحدين؛ ما يشجع المزيد من الأشخاص على الانفتاح والتعبير عن إلحادهم.
ساعدت بعض المنصات الإعلامية في تسليط الضوء على الإلحاد؛ ما جعلها موضوعًا للنقاش العام، وقد ساعد هذا الاهتمام الإعلامي في تطبيع فكرة الإلحاد في المجتمعات الخليجية، وأدى إلى زيادة قبولها كموقف فكري يمكن تبنيه.
كما تؤثر العولمة ونمط الحياة الاستهلاكي الأمريكي بشكل كبير على الأجيال الشابة في الخليج، فالانفتاح على الثقافات الأجنبية والتفاعل المستمر مع وسائل الإعلام العالمية يؤديان إلى تبني مفاهيم وقيم جديدة قد تتعارض مع التقاليد والمعتقدات الدينية المحلية، وهذا التفاعل المستمر مع الثقافة الأمريكية الاستهلاكية، التي غالباً ما تكون علمانية، يعزز من الاتجاه نحو الإلحاد بين الشباب.
وشهدت دول الخليج خلال الأعوام الأخيرة موجة من الانفتاح الثقافي والتوسع في الحريات الفردية، وهو ما فتح الباب أمام الملحدين لممارسة نشاطاتهم بنوع من الحرية، رغم المحاربة المجتمعية والقانونية لهذه الظاهرة، حيث يشعر البعض أن هذا الانفتاح يمثل فرصة للتعبير عن أفكارهم ومعتقداتهم بدون خوف من الملاحقة.
كما توجد عدة أسباب أخرى تسهم في انتشار الإلحاد في دول الخليج، من بينها صعود الإلحاد في الغرب وتأثيره على المجتمعات العربية والإسلامية، نتيجة التبعية الفكرية خاصة بين فئة الشباب المنفتح بشكل كبير على الأفكار الغربية بفعل التكنولوجيا وحب الاطلاع، وأيضًا بسبب الترجمة المتزايدة للأعمال الإلحادية إلى اللغة العربية؛ ما يسهم في تعميق هذه الظاهرة في المنطقة، إضافة إلى وجود قابلية للإلحاد نفسية أو فكرية، يمكن أن تؤدي إليه في وجود تأزم شخصي أو اجتماعي يزيد من هذه القابلية، وأيضًا تأثير طبيعة المجتمع الذي لا يقبل الاختلاف ويتسم بالقسوة على الرأي المختلف قد يدفع بعض الأشخاص إلى الإلحاد كتعبير عن التمرد على هذه القيم الاجتماعية.
الإلحاد الصامت
ظاهرة أخرى وجدت لنفسها ملجأ آمنًا بين دول الخليج والشرق الأوسط بشكل عام، وهي «الإلحاد الصامت»، حيث أصبح الشباب والشابات يعنون من أزمة اعتقادية تؤدي إلى تبني مواقف إلحادية دون إعلانها صراحة، حتى إن بعض الدراسات قدرت نسبة الذين يعيشون إلحاداً صامتاً في الشرق الأوسط ودول الخليج بـ 60%؛ ولا يعلنون عنه.
وتُفسر هذه الظاهرة بأن السردية الدينية السائدة أصبحت محصورة في إطار ما هو جائز وما هو غير جائز وفق الأصول الدينية؛ ما يؤدي إلى نوع من الانفصال التفكيكي، فالسردية التقليدية لم تعد قادرة على مجاراة التغيرات السريعة والطفرات التي تحدث بفعل التطور التقني ووسائل التواصل الاجتماعي.
وهذه الأزمة الوجودية والشعور بالضياع يعززه سقوط عدد من المعتقدات الصلبة حول مركزية الإنسان والعالم نتيجة لصدمات علمية ومعرفية متوالية لم تُقدَّم أجوبة شافية عنها، فالدين، الذي كان مصدر طمأنينة وإجابات عن الأسئلة الوجودية الكبرى، أصبح في نظر هؤلاء اليافعين عاجزاً عن تقديم تلك الطمأنينة؛ ما يدفعهم إلى الإلحاد الصامت.
دعوة للتفاعل
مبادرة العلماء والمفكرين والمثقفين إلى التواصل مع الشباب، ومعايشة همومهم، والإجابة عن شبهاتهم وإشكالاتهم، والسعي لمشاركتهم معاناتهم والعمل على حل المستطاع منها، وأن يكون هذا التواصل مبنيًا على احترام وتقدير وجهات نظر الشباب، حتى وإن بدت لبعضنا خاطئة، لكي نعمل على تصويبها بطرق هادئة وعلمية.
إن الجهد المبذول يجب أن يأخذ طابع المؤسسية في العمل، وأن يكون مستندًا إلى الدراسات والعلوم، بعيدًا عن العشوائية والارتجال، لضمان تحقيق الأهداف المرجوة والوصول إليها بفعالية، ومع ذلك، فإن هذه المحاولة تعد بداية فقط في التعامل مع هذه الظاهرة، والأمر يحتاج إلى جهود مستمرة ومتعددة لمعالجة جذورها وتحدياتها.
ومن هنا، ندعو الشباب أنفسهم إلى المشاركة الفعالة في الحوار حول هذه الظاهرة وما يتعلق بها، لأنهم يملكون رؤى فريدة ومعرفة تجريبية تساهم في فهم أعمق للمشكلات والحلول المحتملة، بالتعاون المستمر والبناء، يمكن أن نساهم جميعًا في خلق مجتمعات أكثر فهمًا وتسامحًا، يحقق فيها الشباب والكبار التعايش السلمي والمزدهر.
ويجب على الآباء الحوار مع أبنائهم الصغار والإجابة عن أسئلتهم قبل أن يكبروا ويصبحوا خناجر مسمومة في قلب دينهم وأمتهم، كذلك يجب على المؤسسات الدعوية تحصين المجتمع ضد الأفكار الإلحادية ونشر الأجوبة عن تساؤلات الشباب بصيغ عصرية كتابية ومرئية لتكون في متناول الجميع، ومن المهم أن تهتم مراكز الأبحاث بتفكيك العلاقات بين النصوص الشرعية ومعطيات العلم التجريبي وتحليلها بشكل يدرأ الشبهات ويرفع التعارض الموهوم بين النقل والعلم.