هل الدنيا خصيمة الآخرة لتوضع مقابلها؟ وهل حب الدنيا رأس كل خطيئة كما يُشاع؟ وما الإشكال أن تُحبّ الدنيا كما تُحبّ الآخرة؟
أسئلة قد تشغل البال كثيرًا في ظل حرث الإنسان الدائم في حياته شاء ذلك أم أباه، بل وتغوُّل ذلك أحيانًا حتى ينسلخ المرء من إرادته ويسير أسيرًا للدنيا، ولذا وجب الوقوف على حقيقة الأمر حتى لا يغفل الإنسان عن مراده -إن كان حدده- أو يوجِدُه إنْ عَدِمه.
الدنيا والآخرة لغةً
قد يظن البعض أن التعريف اللغوي عمومًا أو حتى لهذه الكلمة خصوصًا من ترف القول الذي يُستكثر به، لكن الأمر على خلاف ذلك ولا شك، فإن الدلالة اللغوية للكلمة عند الإفراد أو الإضافة دالة على معاني جمَّة، فالدنيا من الدنو؛ أي القرب، وهي في مقابل الآخرة البعيدة، مما يدل على الاشتراك بينهما في اعتبار؛ وهو الحياة، لذا تجد التعبير القرآني مثبت للحياتين، وإن كانت حياة الآخرة أوقع حقيقةً، قال الله عز وجل: (وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت: 64).
وقد يُقال: إن الدنيا من الدناءة لدلالة الاشتقاق، ولذا قال الحريري:
يا خاطِبَ الدّنيا الـدّنِـيّةِ إنّـهـا شرَكُ الرّدى وقَرارَةُ الأكـدارِ(1)
حقيقة الدنيا والآخرة في القرآن
وقد بيّن الله عز وجل في كتابه العظيم حقيقة الدنيا في غير ما موضع:
فهي متاع متضائل بجانب الآخرة؛ (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) (الرعد: 26)، بل وليست أي متاع؛ بل متاع الغرور؛ (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران: 185).
وضرب الله عز وجل المثل البليغ لنفهم حقيقتها، فإنها مما يُعجب به ثم يزول بلا رجعة؛ (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد: 20).
لذا، جاء التحذير من الغرور بها واضحًا إلى الغاية؛ (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) (فاطر: 5)، والإخبار بمصير الراضي بها وإهمال أختها الآخرة؛ (إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ {7} أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) (يونس).
وبيّن سبحانه وتعالى كذلك حقيقة مقابلتها الآخرة في غير ما موضع:
فهي خير لأصحاب العقل الذين يتقون ربهم؛ (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (الأنعام: 32)، بخلاف من لا يعقل؛ فإنه يستحب الدنيا على الآخرة؛ (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) (إبراهيم: 3) يؤثرها عليها رغم أن الآخرة خير وأبقى، (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {16} وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى)، أفلا يعقل الخلق ذلك؟! (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (القصص: 60).
الزهد في الدنيا
ومن يقف على الحقائق القرآنية في وصف الدنيا يوقن بحقارتها وهوانها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كانتِ الدُّنيا تعدلُ عندَ اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقى كافرًا منها شربةَ ماءٍ»(2)، وسيعرف بذلك حقيقة الدنيا ليتعامل معها التعامل الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدُّنيا سجنُ المؤمنِ وجنَّةُ الْكافرِ»(3)، فإن من عرف حقيقة الدنيا امتنع فيها عن الشهوات المحرمة، وكلّف نفسه الطاعات الشاقة، فإذا مات استراح من هذا وانقلب إلى ما أعده الله سبحانه وتعالى له من النعيم الدائم والراحة المُصفاة من كل كدر، وأما الكافر فإن الدنيا له بما فيها من مسرات ومنغصات جنة بجانب ما يصير إليه حاله من العذاب الدائم والشقاء الأبدي، وعليه فإن «حب الدنيا رأس كل خطيئة»(4).
ولذا شُرع الزهد في الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ وجمعَ لَه شملَهُ وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ، ومن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ وفرَّقَ عليهِ شملَهُ ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ»(5).
وهذا الزهد على مراتب، فمنه فرض ومنه فضل ومنه سلامة، قال إبراهيم بن أدهم: الزهد ثلاثة أصناف: زهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة، فالزهد الفرض: الزهد في الحرام، والزهد الفضل: الزهد في الحلال، والزهد السلامة: الزهد في الشبهات(6).
استشكال بشأن حب الدنيا
وقد يستشكل البعض فيقول: إن المكروه في الدنيا من المعاصي والتفريط لا يستلزم بغضها، وقد قال الله عز وجل: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص: 77)، وجواب ذلك: أن النصيب المذكور في الآيات هو العمل للآخرة، قال ابن كثير في تفسيره للآية: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة(7).
إن الدنيا مزرعة الآخرة؛ فلا بد من التعامل معها في هذا الإطار تفاديًا لأن تصير للإنسان همًا تشغله عما خُلق له من عبادة الله التي هي تعمير لحياته الحقيقية في الآخرة.
______________________
(1) مقامات الحريري، المقامة الشعرية، ص 223.
(2) رواه الترمذي (2320) واللفظ له، وابن ماجه (4110)، وصححه الألباني.
(3) رواه مسلم (2956)، والترمذي (2324).
(4) رواه البيهقي في الشعب بإسناد حسن إلى الحسن البصري رفعه مرسلاً، وعند ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان له أنه من قول مالك بن دينار، وجزم ابن تيمية بأنه من قول جندب البجلي، وحكم عليه الصغاني بالوضع، وللشوكاني رسالة قيمة بعنوان «الأبحاث الوضية في الكلام عن حديث حب الدنيا رأس كل خطية»، ذكر فيه ما يشهد لصحة معناه في الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة.
(5) رواه الترمذي (2465) واللفظ له، وابن أبي الدنيا في الزهد (332)، والحارث في المسند (1092)، وصححه الألباني.
(6) الزهد للبيهقي، ص 69.
(7) تفسير القرآن العظيم (6/ 37).