يميل المجتمع «الإسرائيلي» ميلاً شديداً نحو اليمين، ووصول اليمين المتطرف إلى السلطة يصعب إقامة دولة للفلسطينيين على أي بقعة من أراضيهم، فمنذ وصول بنيامين نتنياهو للسلطة في ديسمبر 2022م بعد تحالفه مع اليمين الديني اليهودي المتطرف تعززت آليات الاحتلال، وفي فبراير 2023م وافقت حكومة نتنياهو على إنشاء أكثر من 7000 بيت جديد في المستوطنات؛ وهذا معناه زيادة أعداد المستوطنين بأعداد تقترب من المليون مستوطن جديد في الضفة الغربية، الأرض التي كان يجب إعدادها لتكون دولة للفلسطينيين.
فإذا أضفنا لما تقدم تزايد هجمات المستوطنين المسلحين على الفلسطينيين في الضفة الغربية وعلى القرى العربية، بضوء أخضر من السلطات «الإسرائيلية» يتضح أن إنشاء دولة للفلسطينيين يتجه ليكون شبه مستحيل، فقد شهد أبريل تصعيداً خطيراً في عدد اعتداءات الجيش والمستوطنين، حيث بلغت 1242 اعتداءً خلال شهر واحد، وبحسب تقرير الهيئة الحكومية فقد نفذ الجيش 895 اعتداءً، فيما نفذ المستوطنون 347 اعتداءً، تركزت في محافظة نابلس والخليل ورام الله.
وتأكد بعد تنصيب الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ «إسرائيل»، ما يعتقده الكثيرون بالفعل، ألا وهو أن إنشاء دولة فلسطينية مستقلة أصبح شبه مستحيل.
غادة كرمي، الطبيبة والأكاديمية الفلسطينية والزميلة السابقة في المعهد الملكي للشؤون الدولية، واحدة من المراقبين الذين أدركوا منذ فترة طويلة الحاجة إلى التفكير في «ما وراء حل الدولتين»(1).
في كتابها الأخير «دولة واحدة: المستقبل الديمقراطي الوحيد لفلسطين-إسرائيل»، تقدم غادة الكرمي استعراضاً تاريخياً سريعاً للصراع في فلسطين قبل تقديم حجتين رئيستين:
الأولى: أن مشروع حل الدولتين قد انتهى، وتذكر الكرمي بعض العوامل التي تجعل من إنشاء دولتين منفصلتين في «إسرائيل» وفلسطين مستحيلاً مثل تهويد القدس والضفة الغربية، وعزل قطاع غزة، وبناء جدار الضفة الغربية، وعدم جدوى عودة عدد من اللاجئين الفلسطينيين، ولو كان ضئيلاً، إلى الضفة الغربية الصغيرة المكتظة بالسكان(2).
تتبنى الكرمي تقليداً طويلاً من المثقفين الفلسطينيين الذين رفضوا خيار حل الدولتين، ففي عام 1999م، في أعقاب انهيار اتفاقيات أوسلو التي لم يؤمن بها قط، كتب إدوارد سعيد أنه حان الوقت للحديث عن العيش على الأرض التي دفعتنا معًا، وتقاسمها بطريقة ديمقراطية حقيقية، مع حقوق متساوية لكل مواطن، في غضون ذلك، أشار عزمي بشارة في كتاب صدر مؤخراً إلى أن المجموعتين العرقيتين لم تعدا منفصلتين عملياً ولا يمكنهما العيش في دولتين منفصلتين، لذا يجب عليهما إيجاد طريقة للتعايش على قدم المساواة في دولة واحدة(3).
الثانية: أن السبيل الوحيد للخروج من الصراع الحالي هو إعادة توحيد بقايا فلسطين المحطمة في دولة موحدة لجميع سكانها(4)، فالمؤلفة تدرس الاختلافين الرئيسين لحل الدولة الواحدة المقترح على مدى عقود من الزمان، فمن ناحية، نجد مقترحات ثنائية القومية، التي تعني أن العرب واليهود سوف يتقاسمون دولة واحدة ولكنهم يظلون منفصلين عرقياً، وتعد ثنائية القومية خياراً فقد أرضيته في الآونة الأخيرة، ولذلك تقترح النموذج الديمقراطي العلماني كياناً سياسياً يقوم على المواطنة الفردية ومبدأ صوت واحد لكل شخص، وتفضل هذا الخيار الثاني.
وتزعم الكرمي بأن القومية الثنائية لن تلغي أبداً المطالبات العربية واليهودية بالأرض بأكملها، ونظراً للتفوق العسكري والاقتصادي للسكان اليهود، فإن العرب سيظلون مواطنين من الدرجة الثانية في البلد الجديد المشترك، وإن واقع الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية «الإسرائيلية» يدعم بوضوح وجهات نظرها، وعلاوة على ذلك، ونظراً للتعقيد الديني والعرقي لكل من اليهود «الإسرائيليين» والعرب غير اليهود، تشير الكاتبة إلى أن المجتمع الديمقراطي العلماني من شأنه أن يعكس بشكل أفضل التعددية الثقافية في فلسطين.
وفي الكتاب تقدم الكرمي بعض المقترحات لتحقيق دولة ديمقراطية علمانية واحدة في فلسطين، مثل الحاجة إلى تحول السلطة الفلسطينية من كونها حكومة زائفة لدولة غير موجودة بأهداف غير واقعية إلى مؤسسة تقود حملة لمشروع المساواة في الحقوق(5)، ومع ذلك، فهي أكثر إقناعاً عندما تجادل حول استحالة حل الدولتين وفوائد النموذج الديمقراطي العلماني مما هي عليه عندما تشرح كيف ستتحقق هذه الدولة الديمقراطية العلمانية.
وتشدد الكرمي على حقيقة مفادها أن نظام الحقوق المتساوية سيكون مختلفاً في الإنجاز، وأنه لا يمكن إنجازه إلا على مراحل(6)، ومع ذلك، فإن بعض العقبات الرئيسة التي تعترض طريق دولة ديمقراطية علمانية واحدة في فلسطين لا تزال غير مستكشفة بشكل كامل في كتابها، وتشير إلى أن استغلال «إسرائيل» لأرض فلسطين ومواردها من شأنه أن يشكل تحدياً خطيراً يجب مواجهته قبل إنشاء دولة ديمقراطية علمانية(7).
ومع ذلك، فإن المشكلة أكثر تعقيداً، فالمساواة القانونية والسياسية لن تعني الكثير بدون المساواة الاجتماعية، وهذا هو السبب الذي دفع د. مازن المصري، المحاضر الأول في كلية الحقوق بجامعة لندن، إلى ملاحظة أن التعويضات، التي ينبغي أن تشمل إعادة الممتلكات، ستكون ضرورية لدعم خيار الدولة الواحدة في فلسطين، لأنها ستساهم في معالجة الحالة الحالية من التفاوت الاقتصادي بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين»(8)، حيث يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي السنوي في «إسرائيل» حاليًا أكثر من 44 ألف دولار أمريكي، بينما يدور الرقم في الضفة الغربية وغزة بالكاد حول 3 آلاف دولار.
انتفاضات الوحدة
في مايو 2021م، بعد الحملة «الإسرائيلية» على حي الشيخ جراح المقدسي وبداية الهجوم الجديد على قطاع غزة، بدأ الفلسطينيون في القدس والضفة الغربية و«إسرائيل» احتجاجات ومقاطعات ضخمة كانت تُعرف باسم «انتفاضات الوحدة»، تصف كرمي الانتفاضات بأنها تميزت بالنشوة، والشعور بأن شيئًا ما قد يتغير(9)، ونظرًا لأن الأصوات المؤيدة للفلسطينيين في أوروبا والولايات المتحدة كانت أقوى من أي وقت مضى في أعقاب الانتفاضات، فإنها تكتب أن الروتين المأساوي للوحشية «الإسرائيلية»، والتحدي الفلسطيني دون جدوى، واللامبالاة الدولية، التي كان يتم تحديها(10) في «انتفاضات الوحدة»، حيث ظهرت المقاومة الفلسطينية كجبهة موحدة، رأت الكرمي أملاً في إنشاء دولة ديمقراطية علمانية في فلسطين بأكملها، مع أن اختلال التوازن في القوة الاقتصادية والعسكرية بين «إسرائيل» والفلسطينيين يجعل المرء يعتقد أن الكاتبة قد تكون متفائلة للغاية، وفي الوقت نفسه، يأمل المرء ألا يكون تفاؤلها في غير محله.
_______________________
(1) Ghada Karmi, “Palestinians Need a One-State Solution,” The Guardian, December 20, 2012, https://www.theguardian.com/commentisfree/2012/sep/20/one-state-solution-palestinians-israel.
(2) Ghada Karmi, One State: The Only Democratic Future for Palestine-Israel (London: Pluto Press, 2023), p، 87.
(3) Azmi Bishara, Palestine: Matters of Truth and Justice (London: Hurst and Co., 2022), p، 286.
(4) Karmi, One State: The Only Democratic Future for Palestine-Israel, p، 169.
(5) Ibid., p، 150.
(6) Ibid.
(7) Ibid., p، 148.
(8) Mazen Masri, “Constitutional Frameworks for a One-State Option in Palestine: An Assessment,” in Rethinking Statehood in Palestine: Self-Determination and Decolonization Beyond Partition (Berkeley, CA: University of California Press, 2021), p، 228.
(9) Karmi, One State: The Only Democratic Future for Palestine-Israel, p، 157.
(10) Ibid.