وكن رجلاً إن أتوا من بعده يقولون: مرّ وهذا الأثر
هذا البيت الملهم كان يتمثل به دوماً الشيخ عبدالمنعم صالح العلي العزي، رائد فقه الدعوة الذي رحل عن دنيانا إلى جوار ربه رحمه الله رحمة واسعة.
ولد عام 1938م في بغداد العراق، وقد عرف بكتاباته الدعوية باسم محمد أحمد الراشد؛ وذلك لظروفه الأمنية، حيث خرج من العراق هرباً من ظلم البعث العراقي، ولجأ إلى الكويت فكانت محضناً له ووفى لها بكتاباته في إحياء فقه الدعوة التي تربت عليها أجيال دعوية مباركة.
تميزت عطاءاته في الساحة الفكرية والدعوية، وساعده في ذلك ملكات معرفية موسوعية يعرفها كل من عاصره وقرأ مؤلفاته.
هو الداعية المؤصل شرعياً؛ فكان إنتاجه نموذجاً تأصيلياً عميقاً مستلهماً من أصول الشرع وكتابات السلف الصالح.
هو الأديب الذواق؛ فكانت حروفه وكلماته طبقة بيانية عالية جعلت الشباب يرددون كلماته في المحافل والدروس تلذذاً بسحرها.
هو المبدع الجريء؛ فكانت نظراته استعلاء على واقع مرير وتحريكاً لصناعة الحياة.
هو الأمين الناصح لدعوته؛ فكانت حياته خدمة لدعوته؛ تنظيراً وتأصيلاً وحركة وتفاعلاً مع الأحداث حتى آخر رمق في حياته.
تأثر به شباب الدعوة في الأمة كافة وفي الخليج خصوصاً، حيث أقام في الكويت سنوات ثم في الإمارات وبعدها إلى أوروبا ثم استقر به المقام في ماليزيا حيث توفي فجر يوم الثلاثاء 27/ 8/ 2024م، رحمه الله.
يسَّر الله تعالى لي أن ألتقي الشيخ «بو عمار» عدة لقاءات متفرقة على طريقة «الشاي خانة»، كما كان يسميها الشيخ ويسميها أهل العراق القدامى، وكانت من أجمل لحظات الحياة، فالقرب منه يحييك.
كان الخُبْر كالخَبَر؛ من علم غزير وذهن حاد، ذاكرة حديدية واطلاعات موسوعية، مع نظرات إبداعية ومرونة ذهنية، مبادئ راسخة وقيم أصيلة، وهوية إسلامية مستعلية، نصرة للجهاد والدعوة، ذي طبع عربي أصيل وتواضع جم يخجلك.
وكان قد كتب مقالة نادرة في فكرتها، عظيمة في مقصدها، نورانية حروفها بعنوان «منهجية إبداعية في استثمار الخلود»، تصور فيها طمعاً برجاء الله سبحانه أن يدخل الجنة، وكتب أمنياته في قضاء واستثمار الخلود في تلك الجنان.
فلعله بدأ الآن نعيم استثمار الخلود، نسأل الله تعالى من فضله وكرمه أن يتغمده بواسع رحمته.
أيها الراشد، لئن توقف قلمك، فإن آثار حروفك ما زالت تسري في روح شباب الدعوة.
كنت تقول: «المبدعون منا آل الدعوة» فلله درك!
فقد بدأت «المنطلق»، محذراً من «العوائق»، مهتدياً بـ«الرقائق»، حريصاً على «المسار»، متطلعاً إلى «صناعة الحياة»، مدوناً لـ«رسائل لا تخطئها العين»، وفياً لكل «مسافر في قطار الدعوة»، أرشدتنا إلى «صراطنا المستقيم»، وصولاً إلى «آفاق الجمال»، مهذباً «مدارج السالكين»، باعثاً لـ«الفقه اللاهب»، مسترسلاً في «حركة الحياة»، حتى تمثلت «منهجية التربية الدعوية»، متسلحاً بـ«أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي»، مستنشقاً «عبير الوعي»، بانياً لصرح «العمارة الدعوية»، وفق «رؤى تخطيطية»، بهدوء «مقدمات الوعي التطويري»، داعياً الدعاة والأمة إلى «المؤتمر».
واسمح لي هنا يا شيخي أن أتوقف، ولعلي أكتب بعض أفكار أخرى لاحقاً حول مدرستك الدعوية التي تشرفت بالتتلمذ فيها ولما أتخرج منها، حرصاً على وعد وعهد قطعناه في تلك الجلسات فالله المستعان.
اللهم كما أنار عقول وقلوب شباب المسلمين، نوِّر قبره، وافسح له مُد بصره، وارزقه أجر المجاهد في سبيلك، وافتح له خزائن الخلود في جنانك.