ما زال الناس يذكرون قبل عقد من الزمان تقريباً حين ظهر «تنظيم الدولة الإسلامية»، كما سمَّى نفسه، أو «داعش»، كما استقرّ في عُرف الإعلاميين، وكيف ضجَّت الدنيا بتلك الأحداث الضخام، حين كان المشهد المألوف الذي تركّز عليه الكاميرات وتنقله الفضائيات هو منظر جزِّ الرؤوس وقطع الرقاب وحرق الأسرى –كما في حادثة الطيار الأردني معاذ الكساسبة– إلى غير ذلك من المناظر المؤلمة التي ضُخِّمت وهُوِّلت وقُدِّمت للناس على أن هذا هو الجهاد الإسلامي، وتلك هي أخلاق المسلمين؛ وكان من العجب العجاب أن ذلك التنظيم المسخ قد بدأ أول ما بدأ برجم امرأة يجرها أبوها -أو من يزعم أنه أبوها– بحبل ثم يقدمها لأولئك الجهلة ليرجموها مع تصوير الكاميرات!
كانت تلك الصورة الشائهة هي التي أريد لها أن تستقر في أذهان الناس –مؤمنهم وكافرهم– حتى ينفروا من كلمة «الجهاد» وتفزع قلوبهم كلما طرقت أسماعهم، وسارع بعض المنسوبين إلى العلم الشرعي –واأسفاه!– لتبرير تلك الأفعال مستدلين ببعض شواهد من السيرة انتزعت من سياقها وقُدّمت للناس كأدلة على تسويغ ما قام به أولئك الطغام ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وسُنة الله ماضية في وجود جماعة من أهل الحق والفضل –في كل زمان– ينفضون عن الأمة غبار النوم، ويعيدون للدين سموه وبهاءه؛ فينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وكان من أولئك تلك الثلة المجاهدة في أكناف بيت المقدس، في غزة العزة، التي أظهرت من ضروب البطولة والفداء في جهاد أعداء الله ما سيسجله التاريخ بأحرف من نور، وسيرويه كبار المسلمين لصغارهم عنواناً للبطولة والفداء والبسالة والصبر؛ وقد وفق الله أولئك المجاهدين حين أحسنوا معاملة أسراهم من يهود، وأظهروا من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات ما حمل أولئك على الشهادة لهم على ملأ من الناس وعلى كُره من الإعلام الظالم الكاذب، وصدق الله العظيم: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) (الرعد: 17)، (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) (الأنبياء: 18)؛ فأحيوا عملياً سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي كان خلقه الرحمة، رحمة شملت الصغير والكبير، والمؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، تلكم الرحمة التي كانت له سجيّة، لا تنفك عنه أبداً، لا في سِلم ولا في حرب، ولا في حَضر ولا سَفر، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107).
ولو أن إخواننا في «كتائب القسام» عاملوا أسراهم بشيء من القسوة لكانوا معذورين؛ وذلك لهول ما نزل بهم وبأهليهم من بطش العدو الذي لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة؛ حيث لم تسلم من أذاهم المساجد ولا المشافي ولا المساكن ولا الكنائس؛ فضلاً عن الشيوخ والنساء والأطفال الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، ومعلوم أن النفس الإنسانية في تلك الحال تتحكم فيها مشاعر الغضب والانتقام؛ ولربما حملهم ذلك على أخذ البريء بجريرة المذنب؛ لكنهم عملوا بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان إذا أمَّر أميراً على جيش أو سريَّة أوصاه بتقوى الله، ونهاه عن قتل الصغار والنساء، أو الغدر بالأعداء، أو التمثيل بجثة من قُتِل منهم، وقال له: «اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تُمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا» (رواه مسلم)، وقد وُجدت امرأةٌ مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم مستنكراً قتلها: «ما كانت هذه لتقاتل» (رواه أبو داود).
وعلى نهجه سار الصديق أبو بكر رضي الله عنه الذي أوصى يزيد بن أبي سفيان حين وجهه إلى الشام فقال له: «وإني موصيك بعشر لا تقتلن امرأة، ولا صبياً ولا كبيراً هَرِما، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخرِّبن عامرا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلاً ولا تغرقنه، ولا تغلل ولا تجبن» (رواه مالك في الموطأ).
وحُقَّ لأولئك المجاهدين أن يقولوا كما قال الأول:
مَلَكْنا فكان العفوُ منا سجيةً فلمّا ملكتُم سال بالدم أبطَح
وحلَّلَّتمو قتل الأُسارى، وطالما مررنا على الأسْرى نَمُنُّ ونصفح
فحسبكمو هذا التفاوتُ بيننا وكلُّ إناء بالذي فيه ينضح
وها هنا أسوق بعض جمل في هدي الإسلام الحنيف في تعامله مع الأسرى:
أولاً: الإسلام يأمرنا بأن نلين القول مع الأسير، ونعلِّق أمله بالله عز وجل، ونرغِّبه في الدخول في ديننا، وذلك بأسلوب لطيف هيّن ليّن، لا على سبيل القسر والإكراه، فيقول سبحانه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {70} وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الأنفال)؛ وهذه الآية نزلت في شأن أسرى «بدر» ممن حادوا الله ورسوله وصدوا عن سبيله.
قال رشيد رضا: يُؤخَذُ مِن الآيتينِ ما يجِبُ على المُؤمنينَ مِن تَرغيبِ الأَسرى في الإيمانِ، وإنذارِهم عاقِبةَ خِيانَتِهم إذا ثَبَتُوا على الكُفرِ والطُّغيانِ، وعادوا إلى البَغيِ والعُدوانِ.
وأسرى «القسام» ما سمعوا من آسريهم سباً ولا شتماً ولا لعناً ولا طعناً ولا هُجْرا، بل ألانوا لهم القول وأحسنوا معهم الفعل؛ التزاماً منهم بهدي الإسلام وتعاليمه.
ثانياً: في صفقات التبادل كان الوفاء شيمة القساميين؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يفي بالعهد ولا يغدر، ويأمر قادة جيوشه أن يتركوا الغدر ويوصيهم قائلاً لهم: «ولا تغدروا» (رواه مسلم).
وعن عبدالله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقض قوم العهد إلا سُلِّط عليهم عدوَهم» (رواه الطبراني وصححه الألباني)، وعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» (رواه أحمد وصححه الألباني).
وقد أقر وشهد أعداؤه بوفائه وهم في شدة عداوتهم له، فقال مكرز لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عُرِفتَ بالغدر صغيراً ولا كبيراً، بل عُرِفتَ بالبر والوفا»، ولما سأل هرقل أبا سفيان وهو يومئذ ما زال كافراً: أيغدر محمد؟ فقال: لا، فقال هرقل: وكذلك الرسل لا تغدر.
ثالثاً: الأسارى مِن المشرِكين يجِبُ إطعامُهم إلى أن يَرى الإمامُ رأيَه فيهم؛ مِن قَتلٍ أو غيرِ ذلك، قال الرازي رحمه الله تعالى: فإن قيل: لَمَّا وَجَب قَتْلُه، فكيف يَجِبُ إطعامُه؟ الجوابُ: القَتلُ في حالٍ لا يَمنَعُ مِن الإطعامِ في حالٍ أُخرى، ولا يَجِبُ إذا عوقِبَ بوَجهٍ أن يُعاقَبَ بوَجهٍ آخَرَ؛ ولذلك لا يَحسُنُ فيمَن يَلزَمُه القِصاصُ أن يُفعَلَ به ما هو دونَ القَتْلِ، وذلك على قولٍ في تفسيرِ الأسيرِ.
رابعاً: الهدْي المطرد في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إحسان معاملة الأسير، وإيثاره بالخير ترغيباً له في الإسلام، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم حين أسر من المشركين يوم «بدر» سبعين فرَّقهم بين أصحابه وقال لهم: «استوصوا بهم خيراً» (رواه الطبراني في الصغير والكبير)، وهو في تلك الحال يوصي بأناس طالما عذّبوه وأصحابه، وحاولوا فتنتهم عن دينهم، وقد نفّذ الصحابة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمانة، وكانوا سمحاء كرماء معهم، فهذا أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير يقول: «كنت في رهط الأنصار حين أقبلوا بي من «بدر»، فكانوا إذا قدّموا غداءهم وعشاءهم خصّوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، فأستحيي فأردها، فيردها عليّ ما يمسها»، وكان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين بـ«بدر» بعد النضر بن الحارث.
وأسرى اليهود في يد «كتائب القسام» شهدوا بأنهم كانوا يطعمونهم من جنس الطعام الذي يأكلون، ولا يستأثرون عليهم بشيء، بل وفروا الدواء للمرضى منهم، وأكثر من ذلك كان مع بعض النساء كلبها فتركوه لها حتى خرجت به حين أطلق سراحها!
وأخيراً: فإن على الناس أن يعلموا أن الجهاد عندنا عبادة توجهها أحكام وتضبطها أخلاق، وتحفها تعاليم لا يسع مسلماً الخروج عنها؛ فليست الجهاد عندنا حرب إبادة ولا حملات تشفي، بل هي حرب أخلاقية غايتها رد العدوان وحماية المستضعفين ونشر السلام في الأرض؛ (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40).