على مر العصور، شكلت شخصية خطيب المنبر رمزاً دينياً واجتماعياً مؤثراً، حيث كان يحمل على عاتقه مسؤولية توجيه المجتمع، وتوعيته بقضايا الدين والدنيا، على اعتبار أن المنبر المنصة التي يقف عليها الداعية أو الواعظ؛ ليبلغ الناس رسالة الإسلام إلى الناس، ويشرح لهم أحكامه وتوجيهاته.
ومنذ بروز المنبر الأول في الإسلام؛ منبر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، لم يتوقف المنبر عند كونه رمزاً للتوجيهات الدينية والتعبدية وفقط، بل كان رمزاً للسلطة والقيادة، ومركزاً للعلم والمعرفة، وموجهاً للناس عند نزول النوازل.
وفي الأعمال الفنية لا سيما السينما والدراما، تم استثمار هذه الشخصية بشكل واسع من المتحكمين والمسيطرين على مؤسسات الثقافة وأجهزة الإعلام، وجلهم من العلمانيين في إطار سعيهم الحثيث لمحاربة الدين من خلال تشويه رموزه، وتحويلهم إلى أداة للضحك والاستهزاء.
ويحرص المتحكمون في الأجهزة المنوط بها إنتاج الأعمال الفنية على تشويه صورة الداعية بحيث يبدو للناس شخصاً سلبياً تنفر منه المجتمعات، أو انتهازياً لا يدعو إلى الثقة، أو أضحوكة، أو قدوة سيئة لا هَمَّ له في الحياة إلا تحصيل المتع والاستمتاع بالملذات؛ ما يفتح الباب واسعاً للهجوم على الإنسان المتدين باللمز والغمز والسخرية.
كان الظهور الأول للمنبر في الأعمال السينمائية بفيلم «الشيخ حسن»، وهو فيلم مصري أنتج في عام 1952م، من بطولة حسين صدقي، ويحكي قصة حب عابرة للديانات، ورغم بعض المآخذ على الفيلم، فإنه نجح بشكل كبير في إظهار المنبر فضلاً عن رجل الدين الذي يعتليه بشكل إيجابي.
حيث جسد صدقي شخصية شيخ أزهري شديد الإيجابية والتأثير في المحيطين به، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويخطب الجمع، ويستعرض بعض أحكام الزواج في الإسلام، مبرزاً جماليات الدين المخفية، والتأكيد على قيم المساوة والعدل في العلاقة الزوجية، مستشهداً بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، داعياً زوجته النصرانية إلى الإسلام بعد أن أبرز لها جمالياته، وقيمه الأصيلة المتوافقة مع الفطرة البشرية، ومصححاً لكثير من التصورات المغلوطة عن الإسلام، ويقرب المفاهيم الصحيحة لعموم الناس، ويحبب الشريحة المتغربة في اللغة العربية، ويتعامل بحكمة مع قضايا المجتمع، فيحارب البدع ومنها النواح على الميت، ويعنف مدخني الحشيش، ويؤصل لقضية ألا تنكح البكر حتى تستأذن في تضاد مع العرف السائد وقتها أن للرجل إجبار ابنته البكر أو الثيب على الزواج، بعيداً عن النمط التقليدي للمشايخ والعلماء في ذلك الزمن.
وحين خرج فيلم «جعلوني مجرماً» للنور، لم تكن صورة المنبر بنفس القوة التي ظهر بها فيلم «الشيخ حسن»، غير أن اللقطة العبقرية التي بدا فيها فريد شوقي محتضناً المنبر تحمل دلالة قوية ومباشرة على دور المنبر فضلاً عن المسجد في حياة المسلم، علاوة على الرمزية التي عكسها المشهد التي تتعلق بمفهوم الخطيئة والتوبة في الإسلام.
نماذج قليلة للغاية في السينما والدراما العربية لا سيما المصرية التي تظهر المنبر ومن يعتليه بصورة إيجابية، لعل أبرزها: فيلم «الشيخ حسن» مروراً بـ«جعلوني مجرماً»، وفيلم «شيء من الخوف» الذي مثَّل فيه رجل الدين رمزاً للضمير الحي والوعي الحقيقي بالقيم الدينية التي تواجه الظلم والطغيان.
ولعل أجمل ما في هذا الفيلم تحديداً تسليطه الضوء على أهمية صلاة الجمعة كونها نقطة التقاء دوري لبحث شؤون المسلمين وتوعيتهم بما يصلحهم ويفسدهم، وتسليط الضوء على قضية الزواج بالإكراه، معتبراً أنها ليست قضية فردية، بل تهدد سلامة المجتمع بأسره.
أعمال مسيئة
باستثناء هذه الأعمال السالف ذكرها، وقليل غيرها، ظهر المنبر بصورة مقيتة في جل الأعمال الدرامية والسينمائية العربية، فقد استغله الكاتب محفوظ عبدالرحمن، والمخرج محمد فاضل في فيلم «ناصر56» حينما صعد بطل الفيلم الذي يجسد شخصية عبدالناصر ليخطب في الناس من على المنبر؛ بما جعل من المنبر أداة مسيسة في خدمة الزعيم.
وقد شوه المنتجون في العديد من أفلامهم صورة من يصعد على المنبر، من أبرزها فيلم «القرموطي في أرض النار» الذي تعمد إضعاف رمزية رجل الدين وخطيب المنبر في نفوس المسلمين قبل غيرهم حينما أظهره بشخصية هزلية متناقضة، تدعو للسخرية والاستهزاء.
وكذا الحال في فيلم «مطب صناعي» ظهر خطيب الجمعة يتحدث بلهجة عامية، يقطع الخطبة ويتحدث مع المصلين، وحتى لو كان مضمون ما يقوله صحيحاً، إلا أن مخرج الفيلم تعمد أن يظهر خطيب المنبر بصورة تنفر الناس من الدعاة والوعاظ، وتبعدهم عن التأمل في أهمية خطبة الجمعة وضرورة أن تحمل مضامين أهم وأهم من قضية «رنات هاتف محمول».
وقد حرص مخرج فيلم «طباخ الريس» أن يظهر خطيب المنبر بصورة المنافق الذي يتكلم عن ضرورة أن يطبق الحاكم العدل بين الرعية على غرار ما قام به سيدنا عمر بن الخطاب، بينما تملق الخطيب الحاكم حينما وجده جالساً بين المصلين، والقيمة التي حاول التركيز عليها أن الخطباء جبناء ومنافقون.
وفي فيلم «الإرهابي» تعمد لينين الرملي أن يشوه صورة المتدين عموماً، لا سيما الخطباء والدعاة، فالخطيب هو ذلك الشخص الذي تخيم عليه الكآبة وروح الشر والأسلوب المنفر، لم يكن ذلك جلياً في المشاهد المرئية في فيلم «الإرهاب» على سبيل المثال، بل ظهر ذلك أيضاً في الخطبة التي كان يستمع إليها أبطال الفيلم المتحضرين المقبلين على الحياة على شريط كاسيت، والخطيب يتوعد ويحذر بأسلوب فيه غلظة تدعو للضحك والسخرية.
والخطيب والداعية هو الرجل المتهور الذي لا يحسب حساب التبعات حينما خرج لمطاريد الجبل منفرداً دون حماية، والساذج في الوقت نفسه في مشهد ثان، والمتلاعب بعواطف الناس في مشهد ثالث، كما صوره صناع فيلم «الحدق يفهم»، وهو الجبان، والذي يدعو للسخرية في فيلم «صرخة نملة» لأنه تحمس وصعد إلى المنبر ليخطب لمصل واحد، ومضمون الخطبة الدعاء لرجال الأمن الذين يقفون على أبواب المسجد، وهو الحشاش البوهيمي في فيلم «الكيت كات»، وهو الجاهل البلطجي في مسلسل «جزيرة غمام»، وهو الداعية المتاجر بالدين الباحث عن الشهرة كما في فيلم «مولانا».
دراما عربية
والأمر ليس حصراً على الدراما والأعمال الفنية المصرية، بل نال المنبر وخطيبه تشويهاً في بعض الأعمال الدرامية العربية، ففي السودان ظهرت شخصية «الشيخ رفاعي» إمام المسجد في المسلسل السوداني «ود الملك» منحرف السلوك، وكأن القيمة التي ركز عليها صناع المسلسل أي دين سوف يأخذه الناس من خطيب الجمعة وهو في الأصل مهووس بالنساء ولا هم له في الدنيا إلى إرضاء شهواته!
وفي أشهر الأعمال الدرامية السورية مسلسل «باب الحارة 12»، وبدلاً من ظهور شخصية الداعية والخطيب على أنه الشخصية المحورية في المجتمع والقدوة، ظهر وهو يتغزل بامرأة، لترسيخ فكرة أن رجال الدين يعانون من الهوس الجنسي، لا يهمهم إلا مصالحهم الشخصية وشهواتهم ونزواتهم، ومن ثم فهم خطر حقيقي على المجتمع الذي يعيشون فيه، والابتعاد عنهم ضرورة!
ومجمل القول: إن شخصية خطيب المنبر في الأعمال الفنية العربية نالت من الأذى والتشويه المتعمد الكثير والكثير، استجابة لموجة الغمز واللمز في دين الله وتشويه الشريعة والحط من قدر الوعاظ والخطباء في عيون الناس، ولهذا يجب تكاتف الجهود من الجميع ابتداء من الدعاة والوعاظ مروراً بالكتَّاب والمثقفين وصولاً للهيئات الإسلامية من أجل تسليط الضوء على المنبر ورواده باعتباره وسيلة من وسائل نهضة الأمة وأداة من أدوات رفع منسوب الوعي لدى المسلمين، والموجه لعقول الناس، والمغذي لقلوبهم، والصوت الذي يعيد الناس إلى خالقهم، والمذكر الدوري برسالتهم.