صراع كبير ومعاناة يلاقيها أبناؤنا اليوم، ومنهم الملتزمون؛ حيث يعانون من ثنائيات وتناقضات مجتمعية غير مسبوقة، فبين القيم التي يتلقونها داخل محيط الأسرة، وما يواجهونه خارج ذلك النطاق الآمن بالشارع والمدرسة والنادي والجامعة، وبين ثنائية التعليم الديني والتعليم العام، يحدث الصراع حين تجبر طبيعة الحياة هؤلاء الأولاد بالتعامل الطبيعي مع المجتمع المختلف بشكل جذري عما عاشوا فيه؛ فيبدأ القلق النفسي والشعور بالاغتراب.
وكم من بيوت دعاة حائرة أمام إصرار أبنائها على السير في طرق ملتوية بعد استقامتهم، وباكية أمام تقصيرهم في تأدية العبادات بعد التزامهم بها وحفاظهم عليها! يتساءل الأبوان: أين الخلل؟ وهم يحسبون أن مجرد وجود أبنائهم بينهم في بيت واحد كفيل بأن يكون نماذج مكررة منهم دون تحصينهم بما يكفي لمواجهة تلك التناقضات التي يلقونها بمجرد مفارقتهم بيت الأسرة واضطرارهم للاختلاط بمجتمع اختلطت فيه المفاهيم، وغابت عنه القيم الإسلامية.
أسس هوية الشباب المسلم
تتشكل الهوية نتيجة الثقافة العامة المحيطة بالإنسان بدءاً من الوالدين فالأسرة فالمجتمع فالأمة، وبقدر تأثير الثقافة في الفرد واستقائه منها أخلاقياته وسلوكه ومعتقداته، يتشكل عمق هويته ومعرفته وإدراكه وجوابه عن الأسئلة المصيرية للهوية، مثل: من أنا؟ لماذا جئت؟ وأين المصير؟
فالأساس الأول للهوية المسلمة لدى الشاب في خلق الإنسان أنه مخلوق بيد الله عز وجل؛ فيؤمن بقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ {28} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) (الحجر)، ويؤمن بأن الإنسان مخلوق مكرم في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء: 30)، ويؤمن بأن الله عز وجل استخلف الإنسان في الأرض متمثلاً في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30).
ونتاج كل تلك الإيمانيات، فهو يؤمن بالمهمة التي خلق الله عز وجل الإنسان من أجلها وهي: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)؛ فتتشكل هوية الشباب المسلم حول التصور الإسلامي لخلق الإنسان والإيمان بالمهمة التي خلق من أجلها وهي عبادة الله عز وجل.
فمن أين أتت المشكلات الإيمانية والممثلة في ظاهرة الإلحاد المنتشرة في الأوساط التعليمية، ومنهم من نشأ في بيئة دينية محافظة؟! ما الذي ألجأ هؤلاء الشباب للبحث عن هويات أخرى غير الهوية الموجودة بالأساس فينحرف منهم من ينحرف في مرحلة حرجة من عمره؟!
مظاهر الصراع الفكري
ربما يمر الظرف الحضاري العالمي بأكمله بحالة من الصراع الوجودي، حيث قدمت الحضارة الغربية كل ما تملكه من إمكانات مادية، ثم هي حاولت بكل قوة ناعمة أن تفرض هويتها وثقافتها على العالم أجمع من خلال مشروع العولمة باستخدام أدواتها التي ما زالت تملكها وحدها وتتحكم بها حتى اليوم دون وجود مشروع مادي مقابل يسد تلك الثغرة؛ مثل شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ومنتجات هوليوود الموجهة والأدب الموجّه والاقتصاد الرأسمالي وما إلى ذلك من وسائل ومنتجات الحضارة الغربية.
وعلى الجانب الآخر، حيث الشرق والتاريخ والهوية السماوية، حيث أمة تملك هوية وثقافة وحضارة من أعظم الحضارات التي وجدت على الأرض منذ بدء الخليقة وحتى قيام الساعة، ومع ذلك فقد ضعفت الأمة، وتخلت عن هويتها، وكل مساحة تخلت عنها، كانت لصالح الفراغ الفكري، فضاعت ريادتها، وضاعت مكانتها، وأصبحت بغير هوية، وصدق فيها قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره، أذلنا الله»، وظهرت بالوسط الشبابي مظاهر للصراع الداخلي لديهم، منها:
1- التحول من ثقافة الإنتاج والعمل والجهد والإحسان إلى ثقافة الاستهلاك، والنهم في الشراء لكل سلعة غربية بغض النظر عن الحاجة إليها من الأساس.
2- تهافت النساء وبعض من الرجال على منتجات التجميل وجراحاتها والإنفاق فيها ببذخ.
3- كثرة المشكلات الأسرية وسوء التعامل مع الوالدين ومعارضتهم لمجرد المعاصرة وانتقاد تفكيرهم ووصفه أحياناً بالتخلف والرجعية.
4- ظهور تيارات فكرية غربية داخل المجتمع المسلم استطاعت أن تتوغل بسرعة غريبة ولاقت قبولاً بنسبة تكاد تكون مخيفة، مثل الفكر الإلحادي والاختلاط وظهور ما يسمى بالمثلية.
أسباب انتشار ظاهرة التغريب
ويعن لنا سؤال في خضم تلك المآسي الفكرية التي تمر بها الأمة، كيف استطاعت التسلل لمجتمع سماوي بهذا السمو؟! والحقيقة أن الأمة قد تعرضت لعدة هزات عنيفة نتيجة ضعف الخلافة العثمانية، ثم الحروب التي خاضتها، ثم سقوط الخلافة واتفاقيات «سايكس بيكو»، ثم مجموعة من العوامل الأخرى، منها:
1- حصار العولمة بوسائلها لشباب الأمة ونسائها المنوط بهن تربية النشء وتغيير أي واقع سلبي.
2- ضعف المناهج التربوية داخل المؤسسات التعليمية واكتفاؤها بالجانب العلمي.
3- قوة الآلة الإعلامية الغربية والإعلام التابع لها في التأثير على فئة الشباب وتقديم مغريات لهم.
4- الغياب الأسري نظراً لوقوع الأسرة ذاتها في براثن العولمة.
استعادة الهوية الإسلامية
ترتكز عملية استعادة الهوية الأصيلة للأمة حول إرادة قوية للمعنيين من الآباء والمربين والدعاة والمؤسسات التربوية والدعوية، بل وإرادة عامة للمجتمع المسلم لإنقاذ نفسه من المزيد من الانحدار الأخلاقي والعقدي.
ويبدأ الأمر بما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم وهو التربية العميقة والمركزة لإعداد جيل جديد يحمل عقيدة صافية، وتبدأ خطوات الحل من:
أولاً: الأسرة الواعية:
هي المنبع الأول الذي يستقي منه الشاب هويته وثقافته، فإعداد الأسرة والشباب المقبلين على الزواج إعداداً متكاملاً هو الخطوة الأولى لاستعادة الدور الأسرى في إعداد النشء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تُنكح المرأة لأربع لمالها، ولحسبها، ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» (رواه البخاري، ومسلم).
ثانياً: استعادة دور المدرسة في العملية التربوية:
وما تغرسه المدرسة في الطفولة المبكرة قد يؤثر أكثر مما تؤثر الأسرة، وهنا دعوة لأصحاب المال بالاستثمار في التعليم بإنشاء المدارس الإسلامية للاهتمام بالبناء التربوي، بالإضافة إلى المواد العلمية المختلفة، حتى تعود المدارس الرسمية في سائر البلاد العربية للاهتمام بالقيم والأخلاق من جديد.
ثالثاً: استعادة دور المسجد:
المسجد في الإسلام له دور أساسي في إدارة الحياة كلها، فقد كان في مطلع الأمة تقام فيها الصلوات، وتدار منه شؤون الأمة، وتؤخذ فيه قرارات الحروب والفتوح، وتعقد فيه دروس التعلم، فيجب على الآباء ربط أبنائهم بالمسجد، ويجب على الدعاة تطوير أنفسهم وخطاباتهم مع مستجدات العصر واحتياجات الشباب والأمة، ويجب أن يتنوع الدرس المسجدي بحيث يشمل العقيدة والعبادة والأخلاق والسلوك، وأن يتم تقديم نماذج للاقتداء بأسلوب سهل وميسر لقلوب المدعوين، وإبراز مواطن الجمال في الإسلام مثل النظام والنظافة والقوة والبطولة والمجد.