تنوعت آراء العلماء في بيان مفهوم التجديد في الإسلام، غير أنها تدور حول إحياء المعالم التي كشف عنها الدين الحنيف في الجوانب المتنوعة للحياة الإنسانية، ومن أهم المجالات التي يشملها التجديد ما يأتي:
1- الحفاظ على نصوص الدين الأصلية صحيحة نقية:
إذا كان المراد من التجديد إحياء معالم الدين؛ فإن الدين يقوم على النصوص الأصلية التي أنزلها الله تعالى في كتابه، أو بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سُنته، ولا بقاء لدين دون حفظ نصوصه، وما حرفت العقائد السابقة على الإسلام وانحرف أصحابها عن الصراط المستقيم إلا بسبب ضياع الأصول، وتقصير أتباع هذه العقائد في حفظها والتوثق من نقلها.
والناظر في الإسلام يجد أن الله تعالى قد تكفل بحفظه، حيث قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، وحفظ القرآن يستلزم حفظ السُّنة؛ لأنها بيان للقرآن الكريم، حيث قال الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 44).
ورغم أن الإسلام بنصوصه الأصلية؛ كتاباً وسُنة، محفوظ بحفظ الله، فإن ذلك إنما يتم ويتحقق بهمم العلماء الربانيين، وجهودهم وتضحياتهم، وهذا ما حدث بالفعل، فقد حظي القرآن الكريم بعناية بالغة من المسلمين؛ كتابة في السطور، وحفظاً في الصدور، كما حظيت السُّنة النبوية بتتابع علماء الأمة على نقلها بدقة وأمانة، ومواجهة الماكرين بها في كل زمان ومكان.
2- نقل المعاني الصحيحة للنصوص وإحياء الفهم السليم لها:
لقد فسّر الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته معاني القرآن الكريم، وبينها بياناً تاماً شافياً، وقد تلقى الصحابة الكرام معاني القرآن الكريم من الرسول صلى الله عليه وسلم كما تلقوا ألفاظه، وكذلك الأحاديث، إذ المقصود من الألفاظ معانيها، ومن غير المعقول أن يكون خطاب الله ورسوله لهم بما لا يفهمونه، وعليه يصبح فهم القرآن والسُّنة بفهم الصحابة وتلقي معاني النصوص منهم من الأمور التي يتحتم لزومها، خاصة وأن نصوص الوحي كانت بلغة خطابهم اليومية، وقد عايشوا أسباب نزولها، والجو المحيط بها، وبادروا إلى العمل بها، وتفاعلت نفوسهم معها، لأنها مسّت أدق المسائل في حياتهم، وواكبت مختلف ظروفهم وأحوالهم، كل ذلك يجعل فهمهم للنصوص جزءاً لا يتجزأ من الدين، ويكون الإعراض عن فهمهم اتباعاً لغير سبيل المؤمنين(1).
أما إذا تركت النصوص لأفهام الناس وعقولهم، فلا يبعد أن تتعدد أشكال الدين؛ نظراً لاختلاف العقول والأفهام، وتأثرها بعوامل الزمان والمكان والبيئة والثقافة والأهواء والنزعات، لذلك يلاحظ أن الجهود التي بذلت لتحريف نصوص الكتاب والسُّنة قد باءت كلها بالفشل، أما ما نجح في بعضه المغرضون فهو مجال تحريف معاني النصوص وإخراجها عن دلالاتها بأنواع من التأويل والتغيير(2)؛ لذا كان إحياء منهج الصحابة ومن تبعهم بإحسان في تلقي الإسلام وفهمه وتطبيقه، والعناية بتوثيق المنقول عنهم في هذا الباب، من أهم مجالات التجديد.
3- الاجتهاد في الأمور المستجدة وإيجاد الحلول لها:
إذا كان الإسلام دين الله الخالد إلى قيام الساعة، الشامل لكل زمان ومكان وإنسان، ونصوصه محدودة، بينما الحوادث والمستجدات ممدودة، فلا بد إذن من حتمية فتح باب الاجتهاد لإنزال النصوص المحدودة على الحوادث الممدودة، وإيجاد الحلول الإسلامية المناسبة لما يطرأ على الناس من مشكلات، وإلا وقع الناس في حرج وضيق، نتيجة بعدهم عن أحكام ربهم، وساغ لأعداء الدين وأصحاب النوايا الخبيثة والنفوس المريضة اتهام الإسلام بالجمود والرجعية وعدم الصلاحية لكل زمان ومكان.
4- تصحيح الانحرافات:
يظهر الانحراف عن الدين على شكلين، الأول: انحراف في المفاهيم والقيم، والثاني: انحراف في السلوك والعمل، ويعني الانحراف الأول نشوء اعتقادات وتصورات عن الدين على خلاف الحق الذي أنزله الله وأراده، أما الانحراف الثاني فيعني بقاء الاعتقاد صحيحاً، لكن السلوك والعمل يخالف الاعتقاد والتصور.
وقد عبر العلماء عن الانحراف الاعتقادي بأنه مرض الشبهة، وعن الانحراف السلوكي بأنه مرض الشهوة، يقول ابن القيم: إنَّ القلبَ يعترضُه مرضان يتواردان عليه، إذا استحكما فيه كان هلاكُه وموتُه، وهما: مرض الشهوات، ومرض الشبهات؛ وهذان أصلُ داء الخلق إلا من عافاه الله(3).
5- حماية الدين والدفاع عنه والجهاد في سبيله:
إن إعادة الدين إلى أصوله، وصيانته من عبث العابثين، وتحريف المحرفين، وحماية العاملين به الحاملين للوائه يحتاج إلى قوة وبأس، لأن قوام الدين كتاب للهداية وسيف للنصرة، كما قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد: 25).
6- البحث عن حلول لإحياء صيغ التفاعل الحضاري للمسلمين:
إن الوصول إلى المكانة الحضارية بين الأمم المعاصرة يحتاج إلى تأصيل صيغ التعايش السلمي وتفعيل التواصل الحضاري مع الأمم الأخرى، وتجديد الخطاب الدعوي والسياسي الموجه للآخر، والاهتمام بقضايا البيئة المؤصلة في الإسلام، وإظهار القيم الحضارية للإسلام والعمل على إحيائها وبعثها من جديد(4)، فكل من بذل جهداً في ميدان من هذه الميادين؛ فله من التجديد نصيب، وبقدر ما تتعدد الميادين التي يخوض المجدد غمارها، تعظم رتبته في التجديد، والمفلح من شمل تجديده جميع الميادين.
_____________________
(1) ما أنا عليه وأصحابي: أحمد سلام، ص 96.
(2) معالم الهدى: مروان القيسي، ص 108.
(3) مفتاح دار السعادة (1/ 305).
(4) أثر الفكر الإسلامي في النهوض الحضاري للمسلمين: د. جابر عيد، ص 156.