كاتب المدونة: عمر عوض (*)
انتشر منذ مدة وجيزة مقطع فيديو لشابة إيرانية تخلع ملابسها داخل حرم جامعة آزاد الإسلامية، وانتشرت معه على مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الرسمي سردية تشير إلى أن الشابة أقدمت على ذلك احتجاجًا على “مضايقات” عناصر الأمن بخصوص قواعد اللباس في إيران. في المقابل، قال المتحدث باسم الجامعة، أمير محجوب، على منصة “إكس”: “في مركز الشرطة… تبيّن أنها كانت تحت ضغط نفسي شديد وكانت تعاني من اضطراب عقلي”.
بعيدًا عن إشكالية وجود سرديتين متناقضتين، أثار كثيرون مسألة أخلاقية خلت من التناقض بين السرديات، بعد أن أصبحت واضحة للعيان؛ ألا وهي تركيز الإعلام الغربي على قضية هذه الفتاة واعتبارها معركةً قيمية تتعلق بكرامة الإنسان، بينما يتجاهل الجرائم التي ترتكبها “إسرائيل” بحق المرأة والطفل والرجل والحجر في فلسطين ولبنان، أو حتى يدعمها.
يرى كثيرون أن تفسير هذه الازدواجية يعود إلى نفاق في التعاطي مع الأحداث، أو ازدواجية في المعايير تتباين حسب الأعراق والأديان والمصلحة السياسية. ويعني ذلك أن الإعلام الغربي -و بعض الإعلام الشرقي على غراره- يتعامل بانتقائية مع الأحداث، فيبرزها أو يقتطع منها أو يضخّمها حسب الموقف السياسي للمؤسسة، وهو -غالبًا- موقف الممول.
مع ذلك، هناك نمط آخر يجب تفعيله لفهم هذه الظاهرة، وذلك بمحاولة استعراض المفاهيم النظرية التي تشكّل العقل الغربي وتجعله يرى أن الدفاع عن حقوق الفرد أولى من الدفاع عن حقوق الجماعات التي هي -في الأساس- عبارة عن مجموعة كبيرة من الأفراد.
الفردانية في الفكر الغربي.. من تحدي السلطوية إلى صميم الدولة الحديثة
خلال عصر التنوير، الذي تُعدّ أعماله الفكرية الركيزة الأساسية لمعظم الفلسفات السياسية المعاصرة، شغل “الفرد” مساحة واسعة في اهتمام المفكرين السياسيين في تلك الحقبة. وبدأ يتشكل مفهوم “الفردانية” شيئًا فشيئًا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث شهد هذا العصر ثورة فكرية تمحورت حول العقلانية والحرية وحقوق الإنسان.
برز الاهتمام بمصطلح الفرد / الأفراد في الفكر السياسي الغربي كردّ فعلٍ أو بديلٍ للأنظمة السياسية القمعية التي سادت في العصور الوسطى (من القرن الخامس حتى القرن الخامس عشر الميلادي)، حيث كانت إرادة الأفراد في أوروبا مسلوبة بالكامل لصالح الكنيسة والإقطاع. لاحقًا، انحاز مفكرو عصر التنوير إلى الدفاع عن حقوق الأفراد، بعد أن قامت أوروبا بمراجعة الأعمال الكلاسيكية القديمة، مستفيدةً من اختراع الطباعة (حوالي عام 1439) وسقوط القسطنطينية (1453)، الذي فتح الباب لوصول العديد من العلماء من الشرق إلى إيطاليا، حاملين معهم كتبًا وكتاباتٍ مهمة وتقاليد التعلم اليوناني.
في تلك الفترة، التي اتسمت بمراجعات وثورات فكرية، أعلى المفكرون الأوروبيون من شأن العقل والاستقلالية والحرية الفردية، واعتبروا تحقيقها شرطًا أساسيًا للنمو والتقدم في مختلف المجالات. وعلى هذا الأساس، بنوا تصورهم للسلطة السياسية، بحيث تكون الوظيفة الأساسية للسلطة السياسية هي توفير البيئة الملائمة للفرد لممارسة “حقوقه الطبيعية”. واعتُبر هذا الحق أهم حق يكفله “العقد الاجتماعي” المفترض بين الفرد والدولة. وهكذا، تطور لاحقًا مفهوم “الفردانية” كفلسفة أخلاقية تعلي من شأن الفرد ككيان مستقل بذاته، وليس كجزء من مجتمع.
في البداية، ظهرت الفردانية مقابل السلطوية، مؤكدّة على جوهرية احترام الفرد وحريته في ممارسة حقوقه الطبيعية، بعد أن سلبتها السلطوية من الأوروبيين في العصور الوسطى. لكن الفردانية لم تتوقف عند هذا الحد، بل تطورت لاحقًا مع تطور الفكر السياسي الغربي. وظهرت الفردانية الاقتصادية مع صعود الرأسمالية في الغرب، حيث أصبحت الأنظمة تستهدف الأفراد كلٌّ على حدة، لتمكينهم في فترة التعليم والتدريب، ثم تحويلهم إلى أفراد مستهلكين ضمن شبكة كبيرة من المستهلكين. وقد تطلب “تمكين الذات” للأفراد في ظل النموذج الرأسمالي الاستهلاكي تعزيز الحرية والاستقلالية الفردية بعيدًا عن الاعتبارات الجماعية كالعائلة والمجتمع. وصارت وظيفة الدولة تأمين سبل تحقيق الذات للفرد حتى يدخل نادي الأفراد المستهلكين، فتتقدم التجارة وينمو الاقتصاد عندما يستهلك الأفراد كأفراد، وليس كجماعات.
ولم يقف تطور مفهوم الفردانية عند صعود الرأسمالية، بل تعداها إلى جوانب أخرى عديدة، أبرزها التمرد على التراث والجماعة باسم التقدم العلمي، خاصة مع انتشار وسائل التواصل وسهولة الوصول إلى مصادر المعلومات، حيث أتيح للفرد أن “يستقل” برأيه في الدين والسياسة بعيدًا عن التراث والجماعة، مما عزز قيمة الفردانية وأعطاها بعدًا جديدًا، هو الاستقلال الفكري. كذلك، تعززت قيمة الفرد مع صعود سياسات جمع المعلومات والبيانات حول الأفراد، خصوصًا بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، حيث باتت البيانات الشخصية ركيزة أساسية لعمل الشركات الكبرى وأحيانًا الحكومات. وبذلك أصبح كل فرد يشكل ثروة بما يقدمه من بيانات، حيث أصبحت البيانات تعادل المال في المعادلة الحديثة، مما عزز أهمية الفردانية مجددًا.
الحرية الفردية والدولة المحدودة.. دور الحوكمة الليبرالية
في هذا السياق، تطور مفهوم الحوكمة الليبرالية كنموذج لإدارة الدولة الحديثة، يرتكز على حماية الحريات الفردية من تدخلات الحكومة والمجتمع، وبالتالي تقييد سلطة الدولة وتركيز دورها على حماية الفرد من خلال الدستور وأدوات تنفيذ القانون، والقضاء، والإعلام، وحرية التعبير. وهكذا، يعطي نظام الحوكمة الليبرالية الأولوية لقضايا الأفراد، ويعزز بشكل عملي معادلة الفردانية في مواجهة السلطوية كما فهمها الغربيون حسب سياقهم التاريخي.
ومن هنا، وباعتبار الفردانية قيمة مركزية في المجتمعات الغربية وسياسات الدولة الحديثة، يمكن فهم ميل الإعلام الغربي للتركيز على القصص الفردية بدلًا من القضايا الجماعية. فأصبحت قصة فرد يتحدى السلطة، مثلًا، تمثل في الإعلام الغربي قصة نضالية كاملة، وليست مجرد نموذج للنضال. وهذا يعني أن الشابة الإيرانية، بالنسبة للإعلام الغربي، لا تعدّ نموذجًا يعبر عن قصة ضخمة تتعلق بملايين من الشعب الإيراني، بل تُعتبر -كفردٍ وحيد- قضية أخلاقية وقيمية لتحدي السلطة، حتى لو كان الملايين من الأفراد الآخرين يخالفونها الرأي.
وبالتالي، فإن قصة الشابة الإيرانية تتناسب مع توجهات العقل الغربي من ناحيتين: أولًا، تتقاطع مع المعتقدات الأخلاقية السائدة في الغرب، التي ترى أن الفرد يجب أن يتمتع باستقلالية كاملة وحرية شبه مطلقة، بعيدًا عن أي قيود تفرضها الجماعات المحيطة به أو اعتبارات دينية أو أخلاقية غير غربية. وثانيًا، تمثل الشابة الإيرانية نموذجًا جذابًا للإعلام الغربي؛ لأنها تتماشى تمامًا مع سردية “الفرد ضد السلطة” التي يناصرها الغرب منذ عصر التنوير، حيث شكلت الفردانية في مواجهة السلطوية جزءًا واسعًا من فكرهم السياسي.
في مقابل قصة الشابة الإيرانية التي تُبرز معادلة الفردانية ضد السلطة القمعية، لا تظهر النساء في غزة كأفراد يواجهن قضايا شخصية مع السلطة أو التقاليد المجتمعية، بل يُنظر إليهن كجزء من قضية جماعية أكبر متعلقة بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، الذي يحمل أبعادًا تاريخية ودينية وسياسية معقدة. هذه القضية الجماعية لا تتماشى مع سردية “الفرد المناضل” في المخيلة الغربية، إذ ترتبط قضية النساء هناك بقضية مجتمع كامل، وليس بفرد يخوض معركته وحده.
في هذا السياق، تتجلى ازدواجية السياسة الإعلامية الغربية من وجهين: الوجه الأول هو إهمال الإعلام الغربي لمعاناة الجماعة، التي هي في الأساس مجموعة من الأفراد، مقابل تركيزه المكثف والممنهج على قضايا فردية تدعم معادلة الفردانية في مواجهة السلطوية، والتي يؤمن بها الغرب منذ بداية تشكل الدولة الحديثة في القرن السابع عشر. يحدث ذلك، خاصة عندما لا تتماشى قضية الجماعة مع المعايير الفكرية أو السياسية الغربية، حتى وإن تعرض أفرادها للظلم وفقًا للقوانين الدولية وتعريفات حقوق الإنسان.
أما الوجه الثاني، فهو الازدواجية في دعم قضية يؤمن بها الغرب، مثل قضية المرأة، عندما تتعارض مع توجهات الأنظمة التي يتخذها الغرب خصمًا. فعلى سبيل المثال، في ألمانيا وأمريكا وغيرهما، تعرضت عشرات النساء “الغربيات” للضرب خلال تظاهرهن دعمًا لفلسطين، ورغم أن حقوق المرأة تشكل محور اهتمام واسع في العقل الغربي، لم تحظَ هذه النساء بالتغطية الإعلامية المكثفة التي حظيت بها الشابة الإيرانية، لأن الاحتجاج هنا يتعلق بقضية فلسطين وليس بإيران، التي يرفض الغرب نظامها السياسي.
إذًا، سيهتم الإعلام الغربي بقصتك في حالتين: الأولى إذا كانت قصتك تتماشى مع خياراته الفكرية، بغض النظر عن مظلوميتك الحقيقية. والثانية إذا كان في قصتك جانب يمكن استغلاله في معركة سياسية لصالح الجهة المموِّلة، سواء كانت القصة فردية أو جماعية. يمكن القول إن الحالة الأولى تعكس “المعيار الأخلاقي” للغرب – وهو دعم التوجهات الفكرية مثل الفردانية والنسوية والقيم الأساسية للنموذج الغربي، التي لا تشمل حماية المدنيين من غير رعاياه من انتهاكات حقوقهم. أما الحالة الثانية فتعبر عن “البراغماتية الغربية” التي تستغل الأحداث في معركتها السياسية.
أحيانًا، يتصادم “المعيار الأخلاقي” – وفق تعريفهم للأخلاق – مع البُعد البراغماتي السياسي. في هذه الحالة، يميل الغرب إلى التضحية بأخلاقه، كما يظهر عندما يتحالف نظام سياسي ليبرالي غربي مع نظام شمولي قمعي لا يضمن لمواطنيه أدنى درجات الحرية الفردية. عندها، لن تجد الإعلام الغربي يشن حملات دعائية منظمة ضد ذلك النظام، بل قد يكتفي بتمرير مواد متعلقة على مضض.
الاستشراق والهيمنة الثقافية.. المركزية الأخلاقية الغربية
يفتح النقاش السابق حول القيم الغربية، مثل الفردانية، بابًا جديدًا لمناقشة مسألة الاستشراق ومفهوم المركزية الأخلاقية الغربية، وكيف تؤثر هذه الأفكار على تغطية الإعلام الغربي للأحداث والقضايا، كما هو الحال في تغطية قضية المرأة الإيرانية مقارنة بقضية نساء غزة.
في كتابه “الاستشراق“، يشرح إدوارد سعيد مفهوم الاستشراق باعتباره النظرة الغربية إلى الشرق – وخاصة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا – باعتباره عالمًا “آخر”، مختلفًا عن الغرب، يوصف غالبًا بالتخلف والجمود والاستبداد والآبائية والذكورية والسلطوية. ومن خلال هذه الرؤية الغربية للشرق، برّرت الأنظمة السياسية الغربية أخلاقيًا تدخلها في شؤون الدول والمجتمعات الشرقية سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، إذ ينظر الغرب إلى نفسه باعتباره الأكثر تقدمًا وتحضرًا، وبالتالي يرى أنه يمتلك مبررًا أخلاقيًا وحضاريًا للتدخل في مناطق يعتبرها “متخلفة”.
على سبيل المثال، ليس من المستغرب أن تنتقد حكومة غربية ما تراه “انتهاكًا لحقوق الإنسان” في دولة شرقية، وفقًا لتعريفها الخاص لهذه الحقوق. في المقابل، يبدو غريبًا ومستفزًا أن تتناول دولة شرقية انتهاكات حقوق الإنسان في الغرب – حتى ضمن التعريف الغربي ذاته لهذه الحقوق.
من هنا، استطاع الغرب أن يكرّس “الهيمنة الثقافية” على العالم، حيث أصبحت الثقافة السائدة – أي الثقافة الغربية اليوم – تعتبر نفسها معيارًا أخلاقيًا وقيميًا يجب أن يلتزم به الجميع في الشرق والغرب، مع تجاهل شبه كامل للقيم والثقافات الأخرى، خصوصًا الشرقية.
إذًا، يمكن تفسير سلوك الإعلام الغربي في تغطيته لقضية المرأة الإيرانية وصمته – تقريبًا – عن مأساة نساء غزة من زاويتين رئيسيتين:
أولًا، لقد حوّل الغرب منظومته الأخلاقية والثقافية إلى مركزية أخلاقية وثقافية، بحيث لم يعد لأي قيمة خارج هذه المنظومة أي وزن. لذلك، لا يجد الإعلام الغربي ما يدعوه للدفاع عن نساء غزة اللاتي يناضلن لأجل الدين والوطن والمقدسات؛ فهذه القيم لا تمثل له وزنًا أخلاقيًا، إذ يعتبر الغرب أن الأخلاق تقتضي السعي لتحقيق المكاسب المادية حتى وإن كان ذلك على حساب الدين والوطن. فلا مشكلة لديهم إذا تنازل الإنسان عن دينه ووطنه، طالما أن واقع القوة والمصلحة الشخصية أو القومية تفرض ذلك.
ثانيًا، تعد الهيمنة الثقافية ومفهوم المركزية الأخلاقية الغربية ركائز أساسية في النموذج الغربي. من هذا المنطلق، يرى الغربي نفسه وكأنه “حارس الأخلاق” العالمي، مسؤولًا عن الدفاع عن قضايا الحقوق والقيم في الدول الأخرى، لكن وفق تعريفاته الخاصة لتلك القيم، مع تجاهل تام لخصوصيات مجتمعات تلك الدول. ولذلك، لا يعير اهتمامًا للفئات المتدينة الواسعة في إيران مثلًا؛ إذ يكفي أن يجد فردًا واحدًا يتبنى قيمه وثقافته ليتخذ موقفًا داعمًا له، حتى وإن كان هذا الشخص يستفز ملايين آخرين من أبناء مجتمعه. لهذا، اعتبر الغربيون قضية المرأة الإيرانية معركتهم الثقافية الشخصية ضد دولة شرقية “متخلفة”، بينما لا يكترثون بآلاف النساء في غزة لأنهن، في نظرهم، ينتمين إلى تيار “رجعي وتقليدي” في مسائل الحرية والفردانية، بينما “إسرائيل” تُصنف ضمن “المعسكر الليبرالي” حسب تصورهم.
وهكذا، يبدو وكأن الوصول إلى “الليبرالية الغربية” أصبح الهدف الأسمى، بغض النظر عن الطريقة. فلم يعد مهمًا كيف تصل، بل الأهم أن تصل وتخلّص شعبك من “براثن التخلف والرجعية والسلطوية”. وإذا كان الخيار بين محتل ليبرالي وصاحب أرض “رجعي” – حسب وجهة نظرهم – فإن الغرب يختار الأول بلا تردد.
لذلك، يشعر الغرب – محمولًا بهذه المنظومة الفكرية – بمظلومية الشابة الإيرانية، بينما لا يشعر بمعاناة جماعة كبيرة من الناس في غزة؛ لأن الشابة الإيرانية، من منظوره، تمثل نموذجًا معبرًا عن ثقافته وقيمه، في حين أن الغزيين، على الأغلب، لا يشاركونه تلك القيم. ولهذا، ينظر الغرب إلى الصراع بين “إسرائيل” وغزة كحرب بين دولة “ليبرالية متقدمة” وجماعة “متخلفة” لا تعرف شيئًا عن الحياة العصرية، ونساؤها محجبات ومحافظات.
ما بعد الحداثة وسياسات الهوية.. من “الفرد” إلى “الهوية“
نشأت ما بعد الحداثة كتيار فكري يتحدى السرديات الكبرى والأفكار المطلقة التي سيطرت على الفلسفة والسياسة في العصور السابقة. ومع صعود ما بعد الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين، أُعيد النظر في كيفية فهم المجتمع والأفراد، حيث رفضت هذه الحركة الأفكار الشمولية التي ترى المجتمع ككتلة متجانسة، ووجَّهت التركيز نحو الفرد باعتباره كيانًا معقدًا يتألف من هويات متعددة. وقد مهَّد هذا التوجه الطريق لظهور “سياسات الهوية”، كنهج اجتماعي وسياسي يُمكِّن الأفراد من التعبير عن تجاربهم الشخصية بعيدًا عن السياق الجماعي الأوسع.
تتسم ما بعد الحداثة، في جوهرها، بموقف متشكك تجاه كل ما يدَّعي المطلقية أو الحقيقة الشاملة. فقد رأت في القيم الاجتماعية والسياسية مجرد تصورات ثقافية نسبية، تختلف باختلاف الزمان والمكان، معتبرةً أن “الحقائق” ليست سوى نتاجات اجتماعية تتشكل بناءً على السياق المحيط. وبذلك، أضحى التركيز على القيم المشتركة موضع انتقاد لصالح الاعتراف بالهويات الفردية وتجاربها الفريدة. وبدأ يُنظر إلى كل فرد كعالم مستقل، يحمل هوية شخصية تتجاوز القوالب الجماعية.
أدى هذا التحول إلى أن يرى الأفراد في المجتمعات الغربية أنفسهم كممثلين لتجارب خاصة ومتميزة، تعبر عن هوية شخصية لا جماعية. ومن هنا، ركز الإعلام الغربي على تضخيم القصص الفردية التي تتحدى السلطة، مثل قصة المرأة الإيرانية، وجعل منها رمزًا للهوية الفردية في مواجهة المجتمع التقليدي.
سياسات الهوية.. التعبير عن الفئات المهمشة في خطاب جديد
انطلاقًا من هذا الأساس، نمت “سياسات الهوية” كامتداد لتيار ما بعد الحداثة، وركَّزت على تعزيز حقوق الأقليات والمجموعات التي ترى نفسها مهمَّشة أو مقموعة، سواءً بناءً على العرق، أو الدين، أو النوع الاجتماعي، أو غيرها من السمات والهويات. تقوم سياسات الهوية على مبدأ الاعتراف بقيمة الفرد كوحدة هوية مستقلة بذاتها، وليس مجرد جزء من الكيان المجتمعي الأكبر. فالمرأة، على سبيل المثال، لا يتم رؤيتها كفرد في المجتمع فحسب، بل كتمثيل لهوية مميزة تسعى للتعبير عن نفسها ومقاومة القوالب الاجتماعية التي فُرضت عليها.
وبهذا، يصبح الفرد، وليس الجماعة، هو محور الاهتمام في سياسات الهوية. وهذا ما يدفع الإعلام الغربي للتركيز على قضايا مثل قضية المرأة الإيرانية، التي تُقدَّم كرمز لمواجهة شخصية ضد النظام، وتعبير عن هوية فردية تسعى للتحرر، متجاوزةً التبعية لأي مجموعة تقليدية، حتى وإن لم تكن تجربتها تعكس تجارب جميع النساء.
من ناحية أخرى، تكشف سياسات الهوية في الإعلام الغربي عن ازدواجية واضحة عند تناول القضايا الجماعية، مثل قضية النساء في غزة. فبينما يتم تصويرهن كمجموعة تنتمي إلى بيئة سياسية معقدة، يُنظر إليهن بوصفهن جزءًا من معاناة جماعية ناتجة عن صراع سياسي واسع، وليس في أخبارهم قصصا فردية مميزة أو هوية خاصة, بل هم جزء من مجتمع كامل يؤمن بقيم لا يحبها الغرب. وبالتالي, ان قضايا نساء غزة لا تتماشى مع النموذج “البطولي” الذي يفضله الإعلام الغربي، إذ تعتبر معاناتهن جزءًا من صراع سياسي عام لا يتناسب مع سردية سياسات الهوية التي تركز على تجارب الأفراد.
وبذلك، يتجلى هذا التفاوت بوضوح: إذ يُبرز الإعلام الغربي القصص الفردية التي تعزز قيمه الليبرالية، كقصة الشابة الإيرانية، بينما لا يلتفت الى مظلومية عشرات آلاف النساء في غزة، لأن قضيتهن ترتبط بصراع جماعي بعيد غير متصل بالتصورات الغربية للقيم والثقافة والأخلاق.
إذًا، فإن ما يلاحظه المتابعون من تركيز الإعلام الغربي المنظم على قصص فردية – في مقابل التغاضي عن مآسي جماعية بحجم الإبادة – لا يمكن اختزاله فقط في البراغماتية السياسية أو ازدواجية المعايير، كما هو رائج في الخطاب العربي والإسلامي. بل هو، في جوهره، تعبير عملي عن منظومة فكرية وأخلاقية غربية متكاملة، تعلي من شأن الفرد كقيمة أخلاقية مطلقة، وترى في التحدي الفردي للسلطة رمزًا للحرية يستحق الحفاوة والتقدير، حتى وإن كان ذلك على حساب القضايا الجماعية الأكبر والأكثر تعقيدًا التي تتضمن بمجملها ملايين الأفراد.
____________
(*) طالب ماجستير في العلوم السياسية – لبنان