كاتب المدونة: يوسف صاحب الندوي
برز الدكتور محمود الهدوي الكوريا، الباحث الهندي الشاب، كأحد أبرز الأصوات الأكاديمية في الدراسات التاريخية والإسلامية على مستوى العالم، بحصوله على جائزة جائزة إنفوسيس لعام 2024 في العلوم الإنسانية والاجتماعية[1] (The Infosys Prize 2024 in Humanities and Social Sciences is awarded) التي تُمنح تكريمًا للإنجازات الاستثنائية في مجال البحث العلمي، يؤكد الدكتور محمود مكانته كباحث متميز وأصغر الحاصلين على هذه الجائزة في تاريخها.
ينحدر الدكتور محمود من منطقة مالابورام بولاية كيرالا الهندية، حيث نشأ في بيئة تقليدية تعكس التراث الإسلامي. برز منذ شبابه المبكر بموهبته الفذة واهتمامه العميق بالتاريخ، ما قاده إلى دراسة التحولات الثقافية والاجتماعية في مناطق المحيط الهندي وتأثير الشريعة الإسلامية على تلك المجتمعات. وبفضل إسهاماته البحثية التي تتسم بالعمق والابتكار، أصبح الدكتور محمود رمزًا يُحتذى به في الأكاديميا، معترفًا به عالميًا كأحد أبرز الباحثين في تاريخ الإسلام العالمي وتحولاته. وهذه المقالة تسلط الضوء على رحلته الاستثنائية وإنجازاته العلمية.
تُعدّ قصة الدكتور محمود الهدوي الكوريا إجابة لكل التساؤلات حول ما يمكن لشخص نشأ في بيئة ريفية تقليدية، متشبع بالثقافة واللغة العربية والتقاليد الإسلامية، ومتعلم في معاهد إسلامية تقليدية، أن يقدمه للمجتمع الهندي والعالم.
خلال الأيام القليلة الماضية، تصدّر هذا الشاب الإسلامي العالم من ولاية كيرالا، الأخبار في وسائل الإعلام الهندية والدولية، حيث أعلن عن اختياره ضمن الفائزين بجوائز مؤسسة إنفوسيس للعلوم، التي تُمنح تقديراً للتميز في مجال البحث العلمي. الدكتور محمود الهدوي الكوريا، الذي ينتمي إلى منطقة مالابورام، ليس فقط عالمًا دينيًا بارزًا ولكنه أيضًا مؤرخ وباحث متميز.
بدأت رحلته منذ صغره عندما قرر، وهو في الثامنة عشرة من عمره، أن يكتب السيرة الذاتية للزعيم الإسلامي الكبير السيد محمد علي الشهاب الأزهري. كان ذلك أثناء دراسته في جامعة دار الهدى الإسلامية بشماد، حين استقل الحافلة متسلحًا فقط بثقته بنفسه لتحقيق طموحه.
يُعتبر الدكتور محمود كوريّا من أبرز المؤرخين الذين يمكنهم تقديم إسهامات ذات قيمة عالمية. لو كان هناك جائزة نوبل(Nobel Prize) في التاريخ، لكان مرشحًا قويًا لتمثيل جمهورية الهند في تحقيق هذا الإنجاز. تشير إحصائيات الإنترنت الأخيرة إلى أنه من بين أكثر الشخصيات التي بحث عنها العالم مؤخرًا.
خلال فترة دراسته في جامعة دار الهدى الإسلامية، برع في القراءة العميقة، حيث كان يزور بانتظام المكتبات والمقرات الرئيسية لمعظم الصحف اليومية في كيرالا. كان يقضي وقته في قراءة واسعة، إعداد الملاحظات، الكتابة، والمشاركة في النقاشات الأدبية والثقافية، مما ساعده على ترسيخ مهاراته وصقل معارفه. وكان محمود يُعتبر كاتبًا مميزًا بين زملائه في الحرم الجامعي، وشارك بفعالية في تحرير مجلة الجامعة الشهرية “الضياء” المليالمية، حيث كان من الشخصيات الرئيسية التي ساهمت في نجاحها.
ركز الدكتور محمود كوريّا في أبحاثه على دراسة الإسلام على سواحل المحيط الهندي، متتبعًا التحولات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي أثرت على تلك المناطق. وقد أظهر في أبحاثه الدور الكبير للقوانين الإسلامية في تشكيل هذه التحولات، كما كشف عن كيفية تداخل قوانين المجموعات الدينية الأخرى كجزء من التبادلات الثقافية والتجارية القديمة. وبالاستفادة من المصادر التاريخية الموجودة في إندونيسيا وماليزيا، أجرى دراسة دقيقة حول تاريخ مختلف الجماعات في كيرالا وكيفية ارتباطها بالتاريخ العالمي. وصفته لجنة جائزة إنفوسيس بأنه أحد أبرز الباحثين في التاريخ المرتبط بالمحيط الهندي، مشيدة بإسهاماته العلمية الكبيرة التي لاقت صدىً عالميًا.
انتشار الإسلام في العالم البحري
يركّز الدكتور محمود الهدوي الكوريا أبحاثه على دراسة انتشار الإسلام في العالم البحري خلال العصور الحديثة والحديثة المتأخرة، مع إيلاء اهتمام خاص للمدارس الفقهية مثل المذهب الشافعي المنتشرة على سواحل المحيط الهندي والبحرالمتوسط. حصل الدكتور محمود على درجة الدكتوراه عن أطروحته حول الشافعية في هذه المناطق الساحلية، والتي نشرتها جامعة كامبريدج بريس[2]. يُحلل كتاب “القانون الإسلامي في التداول[3]” انتشار واستمرارية الأفكار والتعليقات القانونية الإسلامية في منطقة شرق البحر المتوسط وسواحل المحيط الهندي، مع التركيز على الشافعية، وهي إحدى المدارس الفقهية الأربع في الإسلام السني. يستكشف الكتاب كيف أسهمت نصوص معينة في تشكيل وتحوير الفكر القانوني وحياة مجتمع كبير على مدى أكثر من ألف عام في آسيا وإفريقيا وأوروبا.
ومن خلال دراسة عمليات انتشار النصوص القانونية وأدوارها في المجتمع، وكذلك النظر في كيفية تفاعل المسلمين في منطقة “الإفروآسيوية” مع هذه الأفكار والنصوص الجديدة، ينسج الدكتور محمود كوريا سردًا متكاملاً باستخدام آثار نصوص من أماكن مثل دمشق، مكة، القاهرة، مالابار، جاوة، وزنجبار. يروي هذا السرد قصة مؤثرة عن إسهامات الإسلام في التاريخ العالمي للقانون خلال الفترة الممتدة من القرن الثالث عشر إلى القرن العشرين.
بدأ الدكتور محمود مسيرته الأكاديمية بحصوله على درجة البكالوريوس في التاريخ من جامعة كاليكوت. كما أنه خريج من جامعة دار الهدى الإسلامية، المؤسسة التعليمية الرائدة في تشماد، تحت إدارة الدكتور بهاء الدين محمد الندوي. لاحقًا، تابع دراساته العليا في جامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي، حيث حصل على درجة الماجستير ودرجة الماجستير في الفلسفة (MPhil).
يشير الدكتور محمود في كتابه “المحيط الهندي وملبار”[4] إلى أن أستاذ التاريخ البارز البروفيسور يوغيش شارما كان له دور رئيسي في توجيهه نحو دراسات المحيط الهندي. تابع بعد ذلك الدكتوراه وأبحاثه ما بعد الدكتوراه في جامعة ليدن بهولندا، حيث حصل على عدة منح دراسية بارزة، من بينها منحة “بيني” المقدمة من الحكومة الهولندية، والتي بلغت قيمتها حوالي 20 مليون روبية هندية.
قدّم الدكتور محمود أكثر من مئة ورقة بحثية في جامعات مرموقة في آسيا وأوروبا وأمريكا، كما نُشرت أبحاثه في أبرز المجلات الأكاديمية الدولية. من بين أعماله المتميزة، دراسة حول مدينة بوناني[5]، التي يُشار إليها بـ”مكة الهند”، والتي نُشرت في مجلة “أنالس” الفرنسية[6]، كما أثار مقال عن مسلمي البنغال في مكة، نشر في مجلة “جاشو” الهولندية، اهتمامًا واسعًا.
تميز الدكتور محمود بكونه واحدًا من قلة من الباحثين الهنود الذين نُشرت أعمالهم في مثل هذه المجلات المرموقة. وقد خصصت مجلة “ديسكفري”، وهي من أبرز المجلات البحثية الدولية، غلاف عددها لتسليط الضوء على إنجازاته.
من بين أبرز إصداراته، كتاب “مالابار في الإندونيسية”[7]، و”القانون الإسلامي في التداول”، و”انتفاضات الحيوان”، حيث شارك في تحريرها مع الباحث مايكل نيلر بيرسون. يعمل حاليًا على كتاب جديد يستكشف “نظام الميراث الماترلي (المرومكاثاي)” في الإسلام استنادًا إلى تجارب من عشر دول مختلفة[8].
وبالإضافة إلى لغته الأم المالايالامية، يتقن الدكتور محمود كوريّا اللغة الإنجليزية والعربية والهولندية، مما يتيح له التواصل والعمل في مجالات بحثية متنوعة على المستوى العالمي. وإلى جانب تميزه الأكاديمي، يُعتبر محمود قائدًا مجتمعيًا بارزًا ومنظمًا ماهرًا بين مجتمع علماء العلوم الاجتماعية والإنسانية.
تم تكريمه في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية بجائزة إنفوسيس المرموقة. تشمل الجائزة ميدالية ذهبية، شهادة تقدير، ومبلغًا ماليًا قيمته 100,000 دولار أمريكي، أي ما يعادل حوالي 8.4 مليون روبية هندية. سيُقام حفل تسليم الجائزة في مدينة بنغالور في 11 يناير، حيث سيُكرَّم الدكتور محمود تقديرًا لإسهاماته البحثية التي تقدم رؤى عالمية متعمقة حول المجتمعات المسلمة في سواحل المحيط الهندي، بما في ذلك ولاية كيرالا.
تُعدّ هذه الجائزة واحدة من أبرز الجوائز في الهند، ويُعتبر محمود أصغر من حصل عليها، إذ يبلغ من العمر 36 عامًا فقط. هذا الإنجاز لا يقتصر فقط على صغر سنه، بل يُثبت قدرة خريج من معهد إسلامي تقليدي على تقديم إسهامات مهمة للمجتمع العلمي العالمي.
ولد الدكتور محمود في قرية صغيرة بمنطقة مالابورام في ولاية كيرالا. والده، الشيخ كُنج معين المسليار، عالم ديني، ووالدته السيدة ميمونة ربة منزل. زوجته، فايزة، باحثة في مجال الرياضيات بمعهد ويلور.
يُعتبر محمود كوريّا أحد أبرز الباحثين العالميين الذين درسوا الإسلام وتأثيره على المناطق الساحلية للمحيط الهندي. ركّزت أبحاثه على فهم التحولات الاقتصادية والسياسية والثقافية في تلك المناطق، وكيفية تأثير الشريعة الإسلامية على تشكيلها. كما استكشف قوانين المجتمعات الدينية الأخرى في سياق التبادلات الثقافية والتجارية القديمة. من خلال بحثه المكثف في مصادر تاريخية متوفرة في إندونيسيا وماليزيا، حقق تقدمًا ملموسًا في دراسة تاريخ كيرالا كجزء من التاريخ العالمي. هذه الإسهامات جعلته مؤهلًا بجدارة للفوز بهذه الجائزة المرموقة.
نُشر عن الدكتور محمود كوريّا العديد من المقالات في مجلات علمية دولية بارزة. ومن بين أشهر أعماله، مقال عن مدينة بوناني في ولاية كيرالا نُشر في مجلة “ناشونال جيوغرافيك”، حيث وصفته المجلة بأنه شخصية أكاديمية ملهمة وصوت عالمي مميز في الدراسات التاريخية. وفي سن صغيرة نسبيًا، حقق الدكتور محمود إنجازات أكاديمية ومهنية تُعَدّ نموذجًا للتفوق والإلهام للأجيال القادمة.
أعدّت المقالة حول أبحاث محمود الكاتبة الهولندية البارزة السيدة/ميريت دي برينس، وهي صحفية مستقلة مشهورة بإسهاماتها في المجالات الأكاديمية والاجتماعية. تجدر الإشارة إلى أن جائزة إنفوسيس لهذا العام كانت مقتصرة على الباحثين الذين تقل أعمارهم عن 40 عامًا، بينما كان الحد الأقصى للعمر سابقًا 50 عامًا. تأسست جائزة إنفوسيس للعلوم قبل 15 عامًا من قبل مؤسسة إنفوسيس العلمية، ومنذ ذلك الحين تم تكريم 92 باحثًا تقديرًا لإنجازاتهم في مختلف المجالات الأكاديمية.
___________________
[1] جائزة إنفوسيس هي واحدة من أبرز الجوائز العلمية في الهند، تُمنح سنويًا من قبل مؤسسة إنفوسيس للعلوم تقديرًا للتميز والابتكار في مجالات متعددة تشمل العلوم الإنسانية والاجتماعية، الهندسة وعلوم الكمبيوتر، العلوم الفيزيائية، الرياضيات، العلوم الحياتية، والعلوم الاقتصادية. ومن أهداف الجائزة: تشجيع البحث العلمي المتميز، وتسليط الضوء على المساهمات البارزة التي تحدث تأثيرًا إيجابيًا في المجتمع، وتعزيز مكانة الهند كمركز للابتكار العلمي على المستوى العالمي. والجائزة تتضمن: ميدالية ذهبية، وشهادة تقدير، ومبلغ مالي كبير يصل إلى 100,000 دولار أمريكي، ما يعادل حوالي 8.4 مليون روبية هندية. أما معايير الاختيار: يتم اختيار الفائزين بناءً على جودة أبحاثهم، وتأثيرها الفعلي أو المحتمل في مجالهم، وعلى المجتمع ككل. وتُمنح الجائزة عادةً للباحثين والعلماء تحت سن الأربعين (في بعض الفئات). أهميتها: تُعدّ الجائزة من الجوائز الأكثر احترامًا في الأوساط الأكاديمية الهندية، وتُبرز الفائزين كرواد في مجالاتهم. منذ تأسيسها قبل حوالي 15 عامًا، تم منح الجائزة إلى أكثر من 90 باحثًا، مما يعكس عمق التنوع والتفوق العلمي في الهند. والجائزة تعزز من التقدير الدولي للعلوم والتكنولوجيا والعلوم الإنسانية الهندية، وتسهم في إلهام الأجيال القادمة للتميز في البحث العلمي.
[2] Islamic Law in Circulation: Shafi’i Texts across the Indian Ocean and the Mediterranean (Cambridge Studies in Islamic Civilization).
[3] Islamic Law in the Indian Ocean World
[4] MALABAR IN THE INDIAN OCEAN WORLD: Cosmopolitanism in a Maritime Historical Region by Mahmood Kooria and Michael Naylor Pearson.
[5] Politics, Economy and Islam in ‘Dutch Ponnāni’, Malabar Coast, December 2019, Journal of the Economic and Social History of the Orient 62(1):1-34 DOI: 10.1163/15685209-12341473 By: Mahmood Kooria
[6] تأسست مجلة أناليس عام 1929 على يد مارك بلوخ ولوسيان فيبر، وكانت دائمًا منصةً لعرض أكثر الأبحاث ابتكارًا في مجال التاريخ. تُوفر المجلة منصة فريدة للحوار بين مختلف العلوم الاجتماعية، وهي منفتحة على مجالات بحث جديدة، مثل التاريخ المقارن، والتحليل الثقافي، والتأمل الإبستمولوجي. تُعدّ أناليس المجلة الفرانكفونية الأكثر انتشارًا في العالم. كما أن جميع المقالات المنشورة منذ عام 2012 متوفرة باللغة الإنجليزية.
[7] Malabar in the Indian Ocean Cosmopolitanism in a Maritime Historical Region Edited by Mahmood Kooria Michael N. Pearson, Oxford University Press.
[8] كان ذلك شكلًا من أشكال التقاليد العائلية التي كانت سائدة في المناطق التي تشكل اليوم جزءًا من ولاية كيرالا. كان هذا النظام يتضمن توريث الأملاك والحقوق عبر نسل الأم، حيث كانت الوراثة تنتقل إلى أبناء الأخوات من جهة الأم، وكان الرجل الأكبر بين إخوَة الأم يُعرف بشيخ الأسرة، وهو من كان يدير ممتلكات العائلة. ومع ذلك، كان حق الوراثة الفعلي ينتقل إلى أبناء الإخوة. كان هذا النظام يطبق في الأسر الممتدة بشكل عام. تم سن القوانين المتعلقة بالورثة في 1 أغسطس 1933 بموجب قانون الذي نُشر في جريدة فورت سانت جورج غازيت، بموجب قوانين 1932 و1933، وقد أقرّ البريطانيون وملوك البلاد هذه الأنظمة. لا يزال بعض من هذه التقاليد، في بعض مناطق مالابار، ساريًا حتى اليوم، حيث استمر بعض أفراد المجتمع من الطوائف مثل الناير وبعض البراهمة من ديانات الهندوسية في اتباع هذا النظام. علاوة على ذلك، كان هذا النظام يُتبع بين المجتمعات المسلمة في تلك المناطق، وخاصة في مناطق مثل تلاسيري ونادابورام وكوتيادي، حيث كانت بعض الأسر المسلمة تلتزم بهذا النظام في زواجهم.