فيصل العش
الآن وقد حدث ما حدث، وأسدل الستار على الشّوط الثّاني من الانتخابات الرّئاسيّة، واختار التّونسيون رئيساً جديداً للبلاد، يمكن أن نعلن خروج التّجربة التّونسيّة من الإنعاش وانتهاء أصعب مرحلة من مراحل الانتقال الدّيمقراطي في دولة لم تعرف للدّيمقراطية طريقاً قطّ.
وبغضّ النّظر عن النّتائج التي أسفرت عنها الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة، فإنّ التّونسيين قد نجحوا في توديع الوضع المؤقت والهشّ، وولجوا إلى الحالة المؤسّساتيّة المستقرّة بعد انتخاب مجلس لنواب الشّعب ورئيساً للبلاد سيتحمّلان المسؤولية الأكبر في الحكم لخمس سنوات قادمة وبذلك تحوّلوا من مرحلة التّأسيس إلى مرحلة البناء.
لقد مثّل نجاح التّجربة التّونسية حتى الآن حدثاً سياسياً مهماً يثير الإعجاب ليس على المستوى الوطني فحسب بل على المستوى الإقليمي والعالمي؛ نظراً للظّروف الصّعبة التي مرّت بها هذه التجربة، والمطبّات العديدة التي اعترضتها، والوضع الإقليمي الخطير الذي أحاط بها.
لكنّ هذا النجاح يبقى هشّاً ما لم يتمّ تحصينه من الأخطار الجمّة التي كادت تعصف بالمسار الانتقالي وتدخل البلاد في دوامة العنف والفوضى، وهي أخطار لم تقاوَمْ في المرحلة الانتقالية ولم يفكّر الفاعلون الحقيقيون في المشهد الوطني في وضع الآليات المناسبة للقضاء عليها؛ حيث تمّ الحدّ منها مؤقتاً بمسكّنات أنقذت الموقف ولكن لم تعالجه، من بينها ما اصطلح بتسميته «توافقاً»، وهو في حقيقة الأمر تنازلاً من طرف واحد قصد إرضاء الأطراف الأخرى وعدم الدخول معها في صراع من شأنه نسف المسار بأكمله، فالكلّ يعلم حجم التنازلات التي قدّمتها حركة النهضة التي كانت تتزعم “الترويكا” الحاكمة لفائدة معارضيها الذين اختاروا التمرّد على المؤسسات التي أنتجتها انتخابات أكتوبر 2011م إلى أن وصل بها الحدّ إلى تسليم السلطة عبر حوار وطنيّ مغشوش إلى حكومة كفاءات، وعدم تقديم مرشّح يمثّلها في السباق الرئاسي بعلّة منع التغوّل.
والأخطار التي تتربص بنجاح التجربة الديمقراطية التونسية عديدة ومتنوعة، لكنّ أخطرها ذات صبغة ثقافية فكرية، سنقف في مقالنا هذا عند اثنين منها، وهما خطر الاستبداد، وخطر التواكل.
استبداد في مواجهة الاستبداد:
لا يعني سقوط الدكتاتور إعلاناً لنهاية عهد الاستبداد، ولا يعني نجاح التجربة الانتخابية انتفاء إمكانية صياغته وعودته من جديد كما صرّح بذلك العديد من الساسة، لأن الاستبداد قد يتشكّل من جديد مادام لديه حاضنة وهي ثقافة الاستبداد السائدة والمنتشرة لدى طيف لا بأس به من التونسيين، وخاصّة لدى جزء كبير من النخبة من مفكرين وسياسيين وفنانين وصحفيين، وتتجلّى هذه الثقافة في تعبيرات متعدّدة كالتعصّب لفكرة أو أيديولوجيا معيّنة وعدم الاعتراف بالآخر ونفي حقّه في الاختلاف والسعي إلى فرض الرّأي بالقوّة المادّية والمعنويّة، وهي ثقافة خبرناها جيّداً خلال السنوات الأربع الماضية لدى العديد من القوى السّياسية والفكرية في البلاد من يمينها ويسارها، بما فيها التي كانت في الصفوف الأماميّة المعارضة لاستبداد النظام السّابق، غير أنه اتّضح أن هذه المعارضة إنّما هي صراع استبداد مع استبداد مضادّ، وهي في حقيقة الأمر ليست من أجل الدفاع عن الحرّية كحقّ إنساني من حقّ الجميع أن يتمتّع به ولو اختلفت الأفكار والانتماءات الاجتماعيّة، وإنما من أجل حرّية توجهاتها الفكريّة والسّياسية لا غير، فهي لم تعارض الاستبداد بشكل عام في جوهره وفي تعبيراته المختلفة، وإنّما عارضت استبداداً مسّ من مصالحها وتدخّل لتحديد مجال حرّيتها.
وليس الإرهاب سوى إحدى تعبيرات ثقافة الاستبداد والتسلّط، فالإرهابيون لا يعترفون بحق الآخرين في تبنّي أفكار مختلفة عن أفكارهم بما أنهم يعتقدون أن أفكارهم هي جوهر الحقيقة، وأن كل من يخالفها هو من الطاغوت، فيستباح عرضه ويفقد حقّه في العيش.
وفي ظلّ ساحة يغيب فيها الحوار الحقيقي بين المختلفين والفاعلين في المشهد السياسي والاجتماعي وتتبادل مختلف الأطراف تهم الفشل والتخلف والتخوين ويرتفع صوت الإقصاء والتشويه المتعمّد وتقيّد الحرّية بعلّة الحفاظ على الأمن وخصوصيات المرحلة، يستطيع الاستبداد أن يبرز ليحكم من جديد سواء عبر بوابة الانتخاب أو غيرها ممّا سيهدّد النجاح التونسي الهشّ الذي تحقّق بعد مرحلة انتقالية صعبة وقد اتجهت الأمور لتتحول إلى تصفية حسابات وقضاء على الخصوم بشتى الوسائل.
ثقافة التواكل
لا يختلف اثنان في اعتبار انتشار ثقافة التواكل والكسل وأفول ثقافة العمل التي هي أساس كل عمران وحضارة من أهمّ أسباب الأزمة الحاليّة التي تعيشها تونس على المستوى الاقتصادي، فالثّقافة السّائدة لدى أغلب التّونسيين ترتكز على تحميل الحاكم مسؤوليّة النّهوض باقتصاد البلاد وتوفير متطلبات المواطنين من مأكل وملبس وصحّة وعمل وترفيه. وتقوم على المطلبيّة المشطّة دون ربطها بالإنتاج ومراعاة الوضع الاقتصادي المنهار الذي تعيشه البلاد.
هذه الثقافة ليست وليدة ما بعد الثورة لكنّها ازدادت حضوراً في المجتمع التونسي؛ نتيجة التسيّب الذي أصاب مؤسّسات الدّولة بغياب المراقبة والحزم اللاّزمين، وتراجع سلطة المشرفين، واستقواء بعض الموظفين والعملة في القطاعين العام والخاص بالنقابات؛ حتّى أصبحوا يشعرون بأنهم فوق القانون، وقد تكبدت المجموعة الوطنيّة خسائر مادّية ضخمة من جرّاء آلاف الإضرابات والوقفات الاحتجاجيّة خاصّة في القطاعات الإستراتيجية مثل الفسفاط، ومن جرّاء عزوف التونسي عن العمل وبروز ما يحقّ تسميته بالعصيان الإداري (نسبة التغيب عن العمل بلغت درجات غير معقولة، والحضور المتأخر ومغادرة العمل قبل التوقيت الإداري).
لقد ساهمت هذه الثقافة مع عناصر أخرى في تأزّم الوضع الاقتصادي في البلاد وتقلّص الاستثمار واختلال ميزانية الدولة، حيث ارتفعت نسبة العجز من جهة والتضخّم من جهة أخرى؛ مما أدّى إلى احتقان اجتماعي كاد يعصف بالبلاد، وقد عجزت حكومة التكنوقراط التي جاء بها الحوار الوطني عن إيجاد الحلول المناسبة وتحقيق النّمو الاقتصادي المطلوب لتجاوز الأزمة، فهل تقدر الحكومة الجديدة التي سيتمّ تنصيبها قريباً بعد نجاح العمليّة الانتخابيّة والقطع مع المؤقت على إنعاش الاقتصاد الوطني وتحسين أحواله في ظلّ انتشار ثقافة التّواكل ونبذ العمل وغياب الإنتاج؟ أم أنّها ستواصل سياسة الاقتراض والتّداين إلى ما لا نهاية لتحقّق التّوازن في ميزانية الدولة؟
الجميع يعلم علم اليقين أنّ تحقيق التّنمية الاقتصاديّة وتخفيض نسبة البطالة بخلق مواطن شغل جديدة وتحسين مستوى دخل المواطن التونسي وطاقته الشرائيّة هي البلسم لعدم الاستقرار وصمام أمان ضدّ انتكاسة التجربة التونسية الفتيّة، ويعلم الجميع أيضاً أنّ ذلك لن يحصل إلا عبر الاستثمار وخلق الثروات وتحسين الإنتاجية؛ وهو ما لا يتحقق إلا بالقضاء على ثقافة التواكل وعودة الناس إلى العمل وتقديسه باعتباره قيمة حضارية من دونها لا تقوم للأمم قائمة ولا تحقّق الشعوب كرامتها، أمّا إذا حافظت ثقافة التواكل على تواجدها في أذهان جمع من التونسيين واستمر احتقار العمل وغياب الإنتاج، فإن ما تحقق من نجاحات في التجربة التونسية سيتعرّض للنسف والانتكاسة.
الخاتمة:
إنّ الانتقال من مرحلة التأسيس إلى مرحلة البناء لم يكن بالأمر الهيّن، وقد تحقق بعد عسرات عديدة، وبعد أن بلغت القلــــوب الحناجـــر وظنّ التونسيّـون أن تجربتهم منتهيــة لا محالة إلى ما انتهت إليه تجارب بقيـــة ثورات “الربيع العربي”، والآن وقد انتهت المرحلة الأولى بسلام وتوجّهت أنظار التونسيين وإرادتهم إلى المستقبل قصد الانطلاق في البناء والإصلاح، فإن على الجميع التحلّي باليقظة المستمرّة لدرء الأخطار التي تهدّد المرحلة الجديدة، وقطع الطّريق أمام كل ما من شأنه أن ينسف ما تمّ تحقيقه خلال السنوات الأربع الماضية.
ومن بين الأخطار الجسيمة التي يجب التفطّن إليها والعمل على الحدّ من تداعياتها السّلبية الخطران الأساسيّان اللذان ما تطرّقنا إليهما في هذا المقال؛ أولهما انتشار ثقافة الاستبداد، حيث بيّنا أن الاستبداد يعشّش في أذهان طيف كبير من التونسيين بدرجات متفاوتة، ولا يمكن الحدّ منه والقضاء عليه إلاّ عبر نشر ثقافة الحوار وقبول الرأي الآخر وعدم فرض الأفكار والرؤى بالقوّة.. وثانيهما؛ فهو خطر ثقافة التواكل والعزوف عن العمل؛ لما لهذه الثقافة من تأثير مدمر على الاقتصاد، ومنع أي إمكانية لإحداث تنمية شاملة ومتوازنة؛ لأن تحقيق التنمية لا يأتي بالصدفة بل بتقديس العمل وتجذر ثقافة الانضباط والتفاني والإتقان في عقول التونسيين.
فهل سيعي التونسيون مدى خطورة هاتين الثقافتين وتداعياتهما ويسعون إلى الحدّ منها وينكبون على وضع السياسات الثقافية والتعليميّة الكفيلة بالقضاء عليهما، أم أن دار لقمان ستبقى على حالها، وفي هذه الحالة سيكون الفشل مآل «المؤسسات الدّائمة» كما فشلت من قبلها «المؤسسات المؤقتة» ولا غرابة حينئذ أن يصيب الشّلل مرحلة البناء بأكملها؟