يخفت صوت الرصاص، وتضع الحرب أوزارها، وينطفئ لهيب النار، وتعود الحياة أدراجاً إلى ما كانت عليه قبل اشتعال الحرب، لكن المجاهد الفلسطيني لا يتوقف لحظة واحدة عن متابعة عمله, فهو ينتقل في رحلته الجهادية من المعركة المباشرة مع المحتل المتمثلة في الاشتباك المسلح بكل ما أوتي من إمكانيات ومعدات، إلى معركة أخرى متمثلة في الاستعداد والتجهيز والتصنيع المستمر, حتى يكون على جاهزية تامة إذا ما تجدد العدوان الصهيوني.
وفي خضم عمليات الاستعداد والتجهيز، لا ينسى المجاهد الفلسطيني وجبته الأسبوعية في الرباط وحراسة الوطن من كيد العدو الصهيوني، الذي لا يتوقف لحظة عن حبك المؤامرات، ونسج الخطط لإضعاف ذلك الجندي المرابط الذي يقف سداً منيعاً لإحباط كل المؤامرات والخطط الصهيونية.
أشباح الليل
غامرنا في تلك الليلة لنتعرف عن قرب على حياة المجاهدين في مناطق الرباط وأماكن الثغور على الحدود الشرقية لقطاع غزة، فوجدنا أشخاصاً أشبه بأشباح سوداء تتنقل بين أغصان الشجر، وفي المخابئ تحت الأرض في عتم الليل البهيم؛ يرصدون تحركات العدو، ويراقبون عن كثب آليات الاحتلال التي لا تبعد عنهم أكثر من كيلو ونصف كيلو.
اقتربنا من المكان الذي يخلو من كل شيء إلا من الرعب والظلام، ولا شيء يعلو فوق صوت نبح الكلاب الضالة, يقفز الرعب في قلب كل من يأتي إليه في أوقات المساء، فهو فضلاً عما تتركه أجواء الليل من الخوف لدى الإنسان, فإن هناك خطراً أكبر من ذلك يتمثل في وجود القوات الصهيونية التي لا تبعد كثيراً عن المجاهدين.
الدافع
الواجب الديني والوطني, والعيش بحياة كريمة، واستكمالاً لمسيرة الشهداء، وتحرير الأرض.. هي مجمل إجابات السؤال الذي طرحناه على مجموعة من المجاهدين المرابطين في أحد مواقع الرباط على الحدود الشرقية لقطاع غزة حول الدافع الذي دفعهم أن يسلكوا هذا الطريق الخطير.
يقول أحد المجاهدين وهو يرتدي بزته العسكرية ويمتشق سلاحه: نحن لا نفعل شيئاً كبيراً، فهذا واجبنا نحو ديننا ووطننا, وفرض علينا أن نستخدم كل الوسائل المتاحة لتحرير أرضنا من المحتل، حتى وإن كانت هذا الطريق مشوباً بالخطر، فنحن نذهب للرباط ولا نتوقع العودة إلى بيوتنا.
وفيما إذا كان دور المجاهد في عمله العسكري يقتصر على رباط ليلة في الأسبوع، أم أن الأمر يتعدى إلى أكثر من ذلك قال لنا قائد الوحدة: رباط هذه الليلة هو جزء من الدور الذي يقوم به المجاهد، ووسيلة من وسائل المقاومة التي يكلف بها، مشيراً إلى أن التدريبات والمهام العسكرية كثيرة ومتنوعة والمجاهد يتنقل بين مهمة وأخرى.
يتغلبون على عواطفهم
تحدثنا إلى أحد المجاهدين وهو متزوج وله من الذرية 5 أبناء، إن كان حبه لأبنائه يمكن أن يؤثر على نفسيته، ويفتّ من عزيمته قال لنا: يكذب من يقول: إنه لا يعشق أبناءه ولا يتمنى أن يضحي بنفسه مقابل أن يعيشوا حياتهم، ولكن هناك ما هو أهم من أبنائنا، وحتى من أنفسنا، إنه الوطن، مضيفاً: أحياناً تمرّ بي لحظات عصيبة جداً قبل خروجي من البيت عندما أنظر إليهم وأودعهم, وخاصة في أوقات الحرب، حيث أشعر أنني لن أعود إليهم, ولكني أتمالك نفسي وأقوي عزيمتي وأنطلق.
يضيف آخر بنبرة قوية وقد ارتسمت على وجهه العزيمة والإصرار: نحن لم نسلك هذا الطريق إلا من أجل أن يعيش أبناؤنا في كرامة وعزة وحرية.
ساعات الرباط
ومن الساعة التي يتمركز فيها المجاهد في موقعه، ويبدأ مهامه الموكل بها حتى تنتهي آخر ساعة من الرباط عندما يعلن الصبح بداية اليوم الجديد، يكون المجاهد قد استغرق أكثر من ثماني ساعات في الحراسة والمراقبة، فأحببنا أن نتعرف على كيفية قضاء هذه الساعات التي يمكث فيها المجاهد في مكانه وكيف يعيشها!
ارتجل أحدهم في همة، واستعرض أبرز ما يقضون به أوقاتهم في ليلتهم قائلاً: نبدأ أولاً بتجديد النية، وقبل أن نصل إلى الموقع المحدد نتفقد العتاد جيداً، وعندما نأتي للموقع يتم توزيع المهام بعد رسم خطة معينة للتحرك، ومن ثم نقوم بتمشيط المنطقة بالكامل حفاظاً على سلامة المكان، وبعدها كل شخص في مكانه يستغل وقته في الذكر والصلاة والاستغفار، وإلى جانب ذلك لم ننسَ التحدث مع بعضنا بعضاً حتى نسلي بعضنا، ونتبادل أطراف الحديث، ولا أخفيك أن روح المداعبة والمرح ليست بعيدة عن حديثنا، فهي تساعدنا على عدم الشعور بالملل والتعب والإرهاق.
برنامج المقاوم
وحتى لا يحسب البعض أن من يلتحق بهذا العمل الجهادي هم من الفئات البسيطة والمتواضعة في المجتمع، والتي لم تتلق الحد الأدنى من التحصيل العلمي أو الوظيفي، طرحنا هذا السؤال على قائد المجموعة، فأجابنا قائلاً، وقد ارتسمت البسمة على وجهه: أنت عكست الصورة؛ لأن الغالبية العظمى من المجاهدين هم من الطبقات الرفيعة في المجتمع، وأكثرهم قد حصّلوا مستويات متقدمة في التعليم، فمنهم المهندس والطبيب والمعلم والطالب الجامعي، وحتى يؤكد لي ما يقول أشار إلى مجموعة من المجاهدين الموجودين في المكان، وقال هذا المجاهد أنهى دراسته الجامعية في تخصص الهندسة، وذلك المجاهد أنهى دراسة التمريض، والآخر أنهى الدبلومة ويكمل الآن في دراسة البكالوريوس, مشيراً إلى أن هؤلاء نماذج من كثير من المجاهدين أصحاب المكانة المجتمعية المرموقة، والدرجات العلمية الرفيعة
حياتهم
وفي صلب هذه القضية، طرحنا موضوعاً متعلقاً بحياة المجاهد في يومه، وإن كان يغلّب قضية الجهاد في سبيل الله والرباط على المجالات الأخرى الاجتماعية والأسرية والعلمية.
تحدث إلينا أحدهم قائلاً: نحن نوازي بين كافة مجالات حياتنا، فالجهاد في سبيل الله هو جزء من حياتنا وليس كلها، لافتاً إلى أنهم يمارسون حياتهم بشكل طبيعي جداً، ويذهبون إلى أعمالهم وجامعاتهم، ويشاركون أسرهم في كل شيء.
يضيف آخر بشيء من التفصيل: أذهب في الصباح إلى جامعتي، وبعدها أرى ما تحتاجه الأسرة في البيت، ومن ثم أقوم بممارسات نشاطات أخرى كالزيارات الاجتماعية أو رياضة كرة القدم أو الذهاب مع الأصدقاء.
التزام وانضباط
وعن التزام المجاهدين بالرباط وبالمهام العسكرية الأخرى، أكد القائد الملثم أن الكل ملتزم بما هو مكلف به، ولا يوجد تخلف أو تقهقر من أحد، ولفت إلى أنهم يتلقون طلبات بالعشرات للالتحاق في الجهاز العسكري، ولكنه بيَّن أن الجهاز العسكري لا يضم أحداً إلى العمل العسكري إلا بعد عمليات فلترة وتصفية واختبارات متكررة، موضحاً أن هذا هو ما يساعدنا على عدم الوقوع في مشكلات عند المجاهدين كعدم الالتزام والتخلف عن المهام.
وإن كان هناك جوانب أخرى يعزّزونها لدى المجاهد أجابنا قائد الوحدة: إننا لا نتوقف عن تعزيز الجوانب التربوية والروحية من خلال عقد اللقاءات المستمرة لهم، واستضافة العلماء والدعاة والتربويين لإلقاء الدروس التي تعزز في نفوسهم هذه الجوانب، موضحاً أن المجاهد يجب أن يتحلى بالجوانب الروحية؛ لأنه مهدد في أي لحظة أن يرتقي شهيداً، وكذلك بالجوانب التربوية حتى يحقق الصفات الطيبة والخصال الحميدة في حياته، ولأنه القدوة الحسنة للآخرين.
غادرنا المكان وبقي المجاهدون رابضين في مواقعهم يتربصون ويراقبون ويحرسون، وبريق عيونهم يلمع وكأنه ينقل رسالة إلى شعبهم أننا لن نغفل لحظة عن حمايتكم والحفاظ على أمنكم.
وما يثير الإعجاب والدهشة أن كل شخص من هؤلاء له قصته الخاصة به، فمنهم من فقد بيته في الحرب، ومنهم من فقد شقيقاً له، ومنهم الوحيد لأهله، وكفيل أن يرتقي من هؤلاء المجاهدين شهداء في حروب لاحقة، ليرتفع حجم التضحية الذي تقدمه العوائل الفلسطينية من أجل تحرير فلسطين.