ما حقيقة استجابة الشيعة العرب في العراق وسورية ولبنان واليمن ودول الخليج للنفخ الطائفي الذي تضخه إيران يومياً عبر وسائلها الدينية والإعلامية والثقافية؟
ما حقيقة أن الشيعة العرب يسخِّرون أبناءهم وأموالهم لخدمة المشروع الإيراني في المنطقة؟
هذه أسئلة يجب تفهمها بعناية ودقة بالغة، ففي أرض العراق العربية، حيث عاش الشيعة والسُّنة قروناً، كان الاحتراب بين الطائفتين استثنائياً عبر التاريخ؛ إذ إن مَنْ أشعل ذلك الاحتراب في حينه هي فئة محدودة في كل فترة من الزمان، نعم الخلاف العقائدي صحيح، ولكن لم يستطع أي من الطرفين إلزام الآخر بعقيدته، والخلاف الفقهي كان أكثر، ولم تتعبد أي طائفة ملزمة أو مكرهة بفقه الآخر.
إلا أن الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية كانت أكثر تعايشاً وإنتاجاً وتفاهماً عبر التاريخ.
اليوم إيران ورطت جزءاً كبيراً من الطائفة في المنطقة للاحتراب مع المكون الآخر السُّني، وتسترزق من وقود ذلك الاحتراب الطائفي تموضعاً في المنطقة العربية على حساب التعايش وثوابت الاجتماع والجغرافيا والروابط الإنسانية.
في لبنان، قال رئيس التيار الشيعي الحر الشيخ محمد الحاج حسن: «إن إيران تتصرف وتستخدم الشيعة العرب وقوداً لمشروعها الخاص في المنطقة الذي لا يخدم الشيعة بل يخدم هدفها السياسي».
ولكن هل الحقيقة كما هي؟ وكما تنشره وسائل الإعلام أن الطائفة منهمكة في عمق المشروع الإيراني؟ أم أن جزءاً منها مندفع لا إرادياً بالضبط المرجعي والاحتواء الإيراني والكتلة الحزبية المسلحة للتيارات الشيعية، بعيداً عن حالة الحريات والحقوق والعدالة.
في إيران، مثلاً الشيعة العرب مستضعفون، ومناطقهم في الأحواز منتهكة، وحالة الدكتاتورية والإلزام والإكراه للسلطة الإيرانية تنقلها التقارير الإخبارية.
في الجنوب العراقي ووسطه، تسيطر المرجعيات الفقهية الستة ذات الأصول الإيرانية (الصدر، الحكيم، السيستاني، الشيرازي، القزويني، الحيري) على القرار الشرعي الدافع للموقف السياسي والاحترابي متمنطقاً بسياج من الإسار والقهر الحزبي التسلطي للمليشيات الحزبية الشيعية الستة عشر أو أكثر من ذلك، آخرها الحشد الشعبي الذي سمي بـ”الشعبي”، ماذا جنى العراقيون الشيعة العرب في الجنوب والوسط؛ إلا القتلى في حروب طائفية أشعلتها إيران وحكمها التابع في العراق؟
الحكم الشيعي في العراق يزخر بالفساد المالي والإداري والطائفي، الطبقة الشعبية في أحياء المحافظات الشيعية تعيش حالة الفقر وسوء الخدمات والسرقات الإدارية.
ماذا استفاد العرب الشيعة في العراق من تغيير النظام البعثي لـ”صدام”؟ لقد استبدلوه بنظام أكثر طغياناً واعتداءً، وأحال تعايشهم الأمني إلى حالة من الاحتراب والقلق والخوف والفقر.
في سورية، انحازت المرجعيات والمليشيات التابعة لإيران إلى النظام المتوحش، الحاضنة الشعبية للشيعة في سورية فقدت بوصلتها التعايشية، فهي منقادة لما تريده إيران ومليشياتها في سورية من مواجهة المكون الرئيس للشعب السوري، ماذا جنت الطائفة هناك؟ حالة من المستقبل المجهول المملوء بالثأر والإفناء المتبادل.. في لبنان، الطائفة كانت حاضنة حقيقية لأهداف “حزب الله” لاعتبارات ديمجرافية وحيوية، لكنها اليوم تخسر أبناءها وفلذات أكبادها في حرب استنزاف لا ناقة لها فيها ولا جمل، لقد ورّط حزب الله الطائفة في دماء السوريين المناهضين لنظام “الأسد” المجرم الذي أذاق اللبنانيين أنفسهم سنوات من الظلم والطغيان.
أما في اليمن، فالحوثيون المدربون في إيران يتقاسمون مع إيران دوراً تاريخياً من الفساد الطائفي والتوغل في إفساد الحياة الإنسانية والاجتماعية بين الزيديين والشافعية، والذي كان مثالاً للتعايش طوال القرون الطويلة من حياة اليمن السعيد، والنتيجة أن الطائفية العربية الشيعية تواجه مستقبلاً غير آمن في محيط سُني تم إثارته طائفياً، لقد أفنت حالة الاحتراب الطائفي من قبل الشيعة عبر القرون كينونتهم العضوية؛ بسبب غرور الاعتداء والقوة المؤقتة والمدفوعة من كيانات غامضة في تلك الحقبة الغابرة، فأين دولة القرامطة في القطيف والعبيديين والإسماعيليين في مصر والعلويين في المغرب؟ وكان سقوط هذه الدول آخرها على يد صلاح الدين الأيوبي، ومنذ 1000 عام وبعد انتهاء تلك الكيانات الطائفية هل ستعيد إيران كرتها لتضع الطائفة في مهب ريح الاحتراب الطائفي العاتية التي لن تبقي للطائفة موقفاً سياسياً أو اجتماعياً وحتى ربما عضوياً كسالفيها في مستقبل غامض؟ في حين أن المذاهب التي آمنت بالمواطنة والتكيف السياسي والاجتماعي والديني كالزيدية والإباضية وباقي المذاهب تعيش حالة من الاطمئنان والسلامة والاستمرار في بيئة سُنية غالبة ذات طبيعة تعايش وحالة من السلم والوفاق الاجتماعي، وهذا لا يعني أن الوطن العربي يعيش حالة من الرفاه والتنمية، ولكن بلا شك لذلك التخلف أسبابه، ولم يكن بسبب الاحتراب الطائفي.
والسؤال: هل سيستطيع المثقفون والنخب والمراجع الشيعية باستعادة المندفعين من الطائفة الشيعية للتوافق والتعايش في أوطانها دون الالتحاف بالمشروع الإيراني في المنطقة؟
إن هذا مرهون بعدة أمور:
1- أن يتم العزل بين الخطاب الطائفي الذي تقوده إيران ومليشياتها ومراجعها المتطرفة وبين الخطاب التعايشي للنخب والمراجع التي تؤمن بالمواطنة والحقوق وحالة التعايش الاجتماعي والديني مع الأكثرية في المنطقة العربية.
2- أن يؤسس «نادي» التعايش والمواطنة الشيعي مشروعاً عربياً شيعياً يعيد الطائفة إلى الحاضنة العربية بعيداً عن حالة الاختلاف السياسي التي تشهدها المنطقة العربية؛ للتأكيد على الثوابت الاجتماعية والسياسية والعيش المشترك.
3 – تحرير المرجعيات الشيعية الفقهية في المنطقة العربية من التبعية الإيرانية، ووضع هذه المرجعيات تحت مظلة الدولة والقانون وقواعد المواطنة، وليست فوق المحاسبة والنقد ولها حرية الاجتهاد والفتوى.
4- إصدار الفتاوى المرجعية التي تحرم الاحتشاد الاحترابي المسلح الطائفي للطائفة، وتحريم الانتماء لها، وتشجيع الطائفة على ألا تكون حاضنة للإرهاب المسلح الطائفي.
5- تدعيم إعلام الطائفة بخطاب تعايشي بعيداً عن الخلافات العقائدية والسياسية، ومقاطعة القنوات الإعلامية التي تثير الفتنة الطائفية وتتحرك ضمن المشروع الإيراني في المنطقة.
ولكن هل هذا كافٍ؟
وأين دور المحاضن السُّنية وهو الأكبر والحقيقة الغائبة في مسار التعايش في المنطقة؟ إن دول المنطقة وشعوبها العربية مسؤولة عن احتواء أبنائها، لابد من إطلاق مشروع حقيقي وطني يقوم على العدالة والمواطنة والحقوق والتنمية وتوزيع الثروة بعدالة، وإعطاء الشعوب العربية فرصة لإنجاز هذا المشروع دون النظر إلى انتمائها العقائدي، وإتاحة المجال لها للمشاركة السياسية والوطنية، وبناء التنمية في أوطانهم، إن على النظام السياسي العربي توفير البيئة الآمنة للتعايش بين المواطنين، وأن يبتعد عن أي خطاب طائفي، ويحاصر كل دعوات الطائفية في المنطقة، وأن ينتمي النظام نفسه إلى شعبه ووطنه وأرضه بعيداً عن تقاسم المصالح مع النظام الدولي والمشروعات الإقليمية.
إن كل ذلك كفيل برفع لحاف إيران الطائفي في المنطقة العربية عن الشيعة العرب .