قال لي صديق، معروف بجمود الفكر، وعبادة العادة، والذعر من كل خروج عليها أو تجديد فيها. قال:
– أتكتب عن زوجك في الرسالة تقول: إنها من أعقل النساء وأفضلهن؟ هل سمعت أن أحداً كتب عن زوجه؟ إن العرب كانوا يتحاشون التصريح بذكرها، فيكنون عنها بالشاة أو النعجة استحياء وتعففا، حتى لقد منع الحياء جريراً من رثاء زوجه صراحة، وزيارة قبرها جهارا. ومالك بن الريب لمّا عد من يبكى عليه من النساء قال:
فمنهن أمى وابنتاها وخالتى **** وباكية أخرى تهيج البواكيا
فلم يقل وامرأتى.. وكذلك العهد بآبائنا ومشايخ أهلنا. لم يكن يقول أحد منهم: زوجتى؛ بل كان يقول: أهل البيت وأم الأولاد، والجماعة،والأسرة، وأمثال هذه الكنايات. أفترغب عن هذا كله، وتدع ما يعرف الناس،وتأتى ما ينكرون؟
قلت: نعم!
فكاد يصعق من دهشته مني، وقال:
– أتقول نعم بعد هذا كله؟
قلت: نعم! مرة ثانية.
أكتب عن زوجتي فأين مكان العيب في ذلك؟ ولماذا يكتب المحب عن الحبيبة وهي زوج بالحرام،ولا يكتب الزوج عن المرأة وهي حبيبته بالحلال؟ ولماذا لا أذكر الحق من مزاياها لأرغب الناس في الزواج. والعاشق يصف الباطل من محاسن العشيقة فيحبب المعصية إلى الناس؟ إن الناس يقرؤون كل يوم المقالات والفصول الطوال في مآسي الزواج وشروره، فلم لا يقرؤون مقالة واحدة في نعمه وخيراته؟
ولست بعد أكتب عن زوجي وحدها؛ ولكنى كما كان هوجو يقول: “إني إذا أصف عواطفي أبا، أصف عواطف جميع الآباء”.
لم أسمع زوجاً يقول إنه مستريح سعيد، وإن كان في حقيقته سعيداً مستريحا، لأن الإنسان خلق كفورا، لا يدرك حقائق النعم إلا بعد زوالها؛ ولأنه ركب من الطمع، فلا يزال كلما أوتى نعمة يطمع في أكثر منها، فلا يقنع بها ولا يعرف لذتها. لذلك يشكو الأزواج أبدا نساءهم، ولا يشكر أحدهم المرأة إلا إذا ماتت، وانقطع حبله منها وأمله فيها؛ هنالك يذكر حسناتها، ويعرف فضائلها. أما أنا فإني أقول من الآن -تحدثا بنعم الله وإقراراً بفضله- إني سعيد في زواجي وإني مستريح.
وقد أعانني على هذه السعادة أمور يقدر عليها كل راغب في الزواج، طالب للسعادة فيه، فلينتفع بتجاربي من لم يجرب مثلها، وليسمع وصف الطريق من سالكه من لم يسلك بعد هذا الطريق.
أولها: أني لم أخطب إلى قوم لا أعرفهم، ولم أتزوج من ناس لا صلة بيني وبينهم.. فينكشف لي بالمخالطة خلاف ما سمعت عنهم، وأعرف من سوء دخيلتهم ما كان يستره حسن ظاهرهم، وإنما تزوجت من أقرباء عرفتهم وعرفوني، واطلعت على حياتهم في بيتهم واطلعوا على حياتي في بيتي. إذ رب رجل يشهد له الناس بأنه أفكه الناس، وأنه زينة المجالس ونزهة المجامع، وهو في بيته أثقل الثقلاء. ورب سمح هو في أهله سمج، وكريم هو في أسرته بخيل، يغتر الناس بحلاوة مظهره فيتجرعون مرارة مخبره..
تزوجت بنتاً أبوها ابن عم أمي، وهو الأستاذ صلاح الدين الخطيب شيخ القضاء السوري المستشار السابق والكاتب العدل الآن. وأمها بنت المحدّث الأكبر، عالم الشام بالإجماع الشيخ بدر الدين الحسينى رحمه الله. فهي عريقة الأبوين، موصولة النسب من الجهتين.
والثاني: أني اخترتها من طبقة مثل طبقتنا. فأبوها كان مع أبي في محكمة النقض، وهو قاض وأنا قاض، وأسلوب معيشته قريب من أسلوب معيشتنا، وهذا هو الركن الوثيق في صرح السعادة الزوجية، ومن أجله شرط فقهاء الحنفية (وهم فلاسفة الشرع الإسلامي) الكفاءة بين الزوجين.
والثالث: أني لم أبتغ الجمال وأجعله هو الشرط اللازم الكافي كما يقول علماء الرياضيات لعلمي أن الجمال ظل زائل؛ لا يذهب جمال الجميلة، ولكن يذهب شعورك به، وانتباهك إليه، لذلك نرى من الأزواج من يترك امرأته الحسناء ويلحق من لسن على حظ من الجمال، ومن هنا صحت في شريعة إبليس قاعدة الفرزدق وهو من كبار أئمة الفسوق، حين قال لزوجه النوار في القصة المشهورة: ما أطيبك حراما وأبغضك حلالا!
والرابع: أن صلتي بأهل المرأة لم يجاوز إلى الآن، بعد ثمن قرن من الزمان، الصلة الرسمية: الود والاحترام المتبادل، وزيارة الغب، ولم أجد من أهلها ما يجد الأزواج من الأحماء من التدخل في شؤونهم، وفرض الرأي عليهم، ولقد كنا نرضى ونسخط كما يرضى كل زوجين ويسخطان، فما دخل أحد منهم يوما في رضانا ولا سخطنا.
ولقد نظرت إلى اليوم في أكثر من عشرين ألف قضية خلاف زوجي، وصارت لي خبرة أستطيع أن أؤكد القول معها بأنه لو ترك الزوجان المختلفان، ولم يدخل بينهما أحد من الأهل ولا من أولاد الحلال، لانتهت بالمصالحة ثلاثة أرباع قضايا الزواج.
والخامس: أننا لم نجعل بداية أيامنا عسلا، كما يصنع أكثر الأزواج، ثم يكون باقي العمر حنظلا مرا وسما زعافا، بل أريتها من أول يوم أسوأ ما عندي، حتى إذا قبلت مضطرة به، وصبرت محتسبة عليه، عدت أريها من حسن خلقي، فصرنا كلما زادت حياتنا الزوجية يوما زادت سعادتنا قيراطا.
والسادس: أني تركت ما لقيصر لقيصر، فلم أدخل في شؤونها من ترتيب الدار وتربية الأولاد؛ وتركت هي لي ما هو لي، من الإشراف والتوجيه، وكثيراً ما يكون سبب الخلاف لبس المرأة عمامة الزوج وأخذها مكانه، أو لبسه هو صدار المرأة ومشاركتها الرأي في طريقة كنس الدار، وأسلوب تقطيع الباذنجان، ونمط تفصيل الثوب.
والسابع: أني لا أكتمها أمراً ولا تكتمني، ولا أكذب عليها ولا تكذبني، أخبرها بحقيقة وضعي المالي، وآخذها إلى كل مكان أذهب إليه أو أخبرها به، وتخبرني بكل مكان تذهب هي إليه، وتعود أولادنا الصدق والصراحة، واستنكار الكذب والاشمئزاز منه. ولست والله أطلب من الإخلاص والعقل والتدبير أكثر مما أجده عندها. فهي من النساء الشرقيات اللائى يعشن للبيت لا لأنفسهن. للرجل والأولاد، تجوع لنأكل نحن، وتسهر لننام، وتتعب لنستريح، وتفني لنبقي. هي أول أهل الدار قياماً، وأخرهم مناماً، لا تني تنظف وتخيط وتسعى وتدبر، همها إراحتي وإسعادي. إن كنت أكتب، أو كنت نائماً أسكتت الأولاد، وسكنت الدار، وأبعدت عنى كل منغص أو مزعج.
تحب من أحب، وتعادي من أعادي. إن حرص النساء على رضا الناس كان حرصها على إرضائي. وإن كان مناهن حلية أو كسوة فإن أكبر مناها أن تكون لنا دار نملكها نستغني بها عن بيوت الكراء.
تحب أهلي، ولا تفتأ تنقل إليَّ كل خير عنهم. إن قصرت في بر أحد منهم دفعتني، وإن نسيت ذكرتني، حتى أني لأشتهي يوماً أن يكون بينها وبين أختي خلاف كالذي يكون في بيوت الناس، أتسلى به، فلا أجد إلا الود والحب، والإخلاص من الثنتين، والوفاء من الجانبين.
إنها النموذج الكامل للمرأة الشرقية، التي لا تعرف في دنياها إلا زوجها وبيتها، والتي يزهد بعض الشباب فيها، فيذهبون إلى أوربة أو أميركة ليجيئوا بالعلم فلا يجيئون إلا بورقة في اليد وامرأة تحت الإبط، امرأة يحملونها يقطعون بها نصف محيط الأرض أو ثلثه أو ربعه، ثم لا يكون لها من الجمال ولا من الشرف ولا من الإخلاص ما يجعلها تصلح خادمة للمرأة الشرقية؛ ولكنه فساد الأذواق، وفقد العقول، واستشعار الصغار، وتقليد الضعيف للقوى. يحسب أحدهم أنه إن تزوج امرأة من أمريكا، وأي امرأة؟ عاملة في شباك السينما، أو في مكتب الفندق، فقد صاهر طرمان، وملك ناطحات السحاب، وصارت له القنبلة الذرية، ونقش اسمه على تمثال الحرية..
إن نساءنا خير نساء الأرض، وأوفاهن لزوج، وأحناهن على ولد، وأشرفهن نفسا، وأطهرهن ذيلا، وأكثرهن طاعة وامتثالا وقبولا لكل نصح نافع وتوجيه سديد. وإني ما ذكرت بعض الحق من مزايا زوجتي إلا لأضرب المثل من نفسي على السعادة التي يلقاها زوج المرأة العربية (وكدت أقول الشامية) المسلمة، لعل الله يلهم أحدا من عزاب القراء العزم على الزواج فيكون الله قد هدى بي، بعد أن هداني!
______________________________
المصدر: موقع «طريق الإسلام» (بتصرف).