لقد جرت مناقشات مكثفة في العشرين عاماً الأخيرة حول أهمية إدارة المعرفة في عالم الأعمال.
واليوم، تعد المعرفة أحد أهم المرتكزات لأي مشروع اقتصادي، والتي يجب إدارتها بفاعلية وكفاءة للحصول على ميزة تنافسية في حقبة اقتصاد المعرفة، وقد تحولت إدارة المعرفة إلى أسلوب إدارة إستراتيجي، لتجد طريقها في عدة تطبيقات بخلاف عالم الأعمال مثل التعليم، والحكومة، والرعاية الصحية.
وقد جرى تبني هذا الطرح من قبل معظم الهيئات الدولية الكبرى – كالمفوضية الأوروبية، والبنك الدولي، والأمم المتحدة ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية – كإطار حاكم للتوجهات الإستراتيجية المتعلقة بالتنمية على الصعيد الدولي، ما يعد دليلاً واضحاً على وجود علاقة ناشئة بين إدارة المعرفة والتنمية القائمة على المعرفة.
وقد أوجدت هذه العلاقة الجديدة البيئة المناسبة لظهور مفهوم “مدينة المعرفة”، الذي يعد هذه الأيام ذا أهمية كبيرة ومادة ثرية للمناقشة، وبالفعل فقد أعلنت عدد من المدن على مستوى العالم نفسها مدناً للمعرفة، في الوقت الذي بدأت فيه مدن أخرى تطوير مخططات إستراتيجية وتنفيذية لكي تصبح مدناً للمعرفة في المستقبل القريب.
وكما حدث في بدايات ظهور مفهوم إدارة المعرفة فلا يوجد هناك إطار واضح أو منهجية موحدة للتصميم والتنفيذ يمكن من خلالها أن تتحول المدن القائمة إلى مدن معرفة ناجحة، حيث ما يزال النجاح الحقيقي لهذه المدن قيداً للدراسة في الأوساط البحثية.
وبالتالي، فإن تحديد الخصائص التي يجب أن تتوافر في مدن المعرفة الناجحة على أرض الواقع أصبح حتمياً.
في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، حدثت تغيرات كبيرة في بنية الاقتصاديات العالمية، وتتعلق هذه التغييرات في الأساس بالطريقة التي يصنع الاقتصاد من خلالها القيمة المضافة، وذلك كما هي الحال فيما يسمى بالاقتصاد القائم على المعرفة، ويعمل هذا الاقتصاد بالتوازي مع الاقتصاد التقليدي، كما يتداخل معه مباشرة في كثير من الأحوال.
ويسمح هذا الاقتصاد المعرفي بالتجديد والابتكار المستمرين في المنتجات وأسلوب تقديم الخدمات، وقد أفرز هذا الاقتصاد هياكل مؤسسية جديدة تعزز عملية تقاسم رأس المال البشري.. وعموماً، فإن أهم ما يميز اقتصادنا المعرفي اليوم هو تسريع وتكثيف عمليات إنتاج واستخدام ونشر المعارف والتقنيات الجديدة.
وقد كتب آلان لابوانت من مدرسة الاقتصاد في جامعة مونتريال أن “الاقتصاد الجديد يتميز بتسارع الاتجاهات التي دفعتنا نحو تحويل أنماط الإنتاج والإدارة”، ويعقب لابوانت بأن هذا الاقتصاد المعرفي يعتبر جزءاً من التطور التاريخي، وفي هذا السياق، أطلقت مدن عدة حول العالم مبادرات مثيرة للجدل، وجهوداً مشتركة وإستراتيجيات محددة استهدفت تحسين مواقفها التنافسية على المستوى الوطني والقاري والعالمي من منظور معرفي.
ويرى ريتشارد فلوريدا أن معايير التنافس الاقتصادي بين المدن التي تبنت هذا الاقتصاد الجديد تعتمد على قدرتها على جذب المبدعين والموهوبين، وكذا الاحتفاظ بهم وصهرهم في بوتقاتها، وكنتيجة لذلك، فإن المدن المعرفية تتنافس في ثلاثة مجالات أساسية، هي:
– جودة الثقافة المحلية.
– حجم وكثافة سوق العمل.
– وجود مرافق وأماكن جذب محلية لها قيمة عالية بالنسبة إلى العاملين في مجال المعرفة.
ويعد الاستثمار في التقنية المتطورة والبنية التحتية التقليدية وكذا الاستثمار الإستراتيجي في الثقافة في إطارها العام أهم ملامح الاتجاه المبدئي الذي يجب أن تمضي فيه المدن في حقبة المعرفة، وتختلف كل مدينة في هذا الصدد من حيث الاستثمارات وطرق التنفيذ.