تحدثنا في المقال السابق عن السمعة الطيبة التي يجب أن يتحلى بها الفرد المسلم، لاسيما التجار من أهل الإسلام، وأنها أحد ضروريات ومستلزمات الفطرة السليمة والحنيفية السمحة.
فالسمعة الطيبة والذكر الحسن مطلبان مشروعان وأمران ضروريان في حياتنا جميعاً، وإذا كان المسلم بصفة عامة يحرص عليهما ويريد تحقيقهما، فالتاجر في ذلك أدق وأحرص؛ لأنهما يمثلان بالنسبة له الحصن الحصين والأساس المتين اللذين يضمنان له الاستمرار والنجاح والتميز بين الأقران.
وقد ضرب أهل الكويت الكرام أمثلة رائعة في الحفاظ على السمعة الحسنة، وهذا ما سوف نستعرضه في ذكر هذه القصة الواقعية، والتي توضح حرص التاجر الكويتي على حفظ سمعته.
نروي هذه القصة باختصار وهي عن التاجر يوسف العبدالهادي الميلم رحمه الله نقلاً عن د. عادل محمد العبدالمغني في كتابه “شخصيات كويتية ص 35 – 36، وخلاصة القصة أن أهل البادية كانوا يفدون في مواسم الربيع لبيع منتجاتهم ويشترون حاجاتهم من المواد التموينية من تجار الكويت، وكانوا يودعون أمانات مالية كثيرة لدى التجار لحفظها لهم من الضياع لعدم وجود خزائن (تجوري) لديهم في البادية، وذلك خوفاً من ضياعها عند التنقل من مكان إلى آخر بحثاً عن الكلأ أو الرزق الحلال، وعلى العموم فإن التاجر الكويتي أصبح محل الثقة لدى هؤلاء البدو، فأموالهم تكون في الصون والأمانة حتى يتم طلبها في السنة المقبلة أو لسنوات أخرى عندما يحتاجون إليها.
وفي أحد الأيام من منتصف الثلاثينيات جاء رجل من سكان بادية الكويت ووقف عند باب محل التاجر يوسف الميلم، طالباً الأمانة المالية التي أودعها في السنة الماضية، فنظر التاجر يوسف إلى الرجل متفحصاً في هيئته، ولم يكن قد شاهده من قبل ولم يكن بالتالي قد أودع الأمانة لديه، فأدرك التاجر يوسف الميلم بداخل سريرته وبالفطرة أن الرجل البدوي حتماً قد التبس عليه صاحب المحل لكون البدو لا يفدون إلى المدينة باستمرار، فقال التاجر يوسف: ذكرني كم المبلغ؟ فرد الرجل البدوي: 300 ريال؛ وهو ريال الملكة تريزا ملكة النمسا المعروف في ماضي الكويت بالريال الفرنسي، ويعادل 2.5 روبية فضية.
وفي الحال أخرج التاجر يوسف من الخزانة الحديدة (التجوري) المبلغ وسلمه للرجل الذي شكره ومضى في سبيله، ولم يمض وقت قصير من انصرافه حتى رجع ومعه الجار صاحب المحل الملاصق لمحل التاجر يوسف الميلم، وأعاد المبلغ مع سيل من الاعتذارات، وعبارات طلب المسامحة، والسبب أنه عندما خرج الرجل البدوي شاهد جار التاجر يوسف فتعرف عليه وقال له: “وينك ما تبي فلوسك؟”، فأدرك البدوي أن المبلغ الذي أخذه ليس له، وكان تعليق التاجر يوسف الميلم رحمه الله بأن المال الحلال لا يضيع، وأضاف: كان عليَّ أن أشتري سمعتي بأي ثمن؛ لأني مدرك جيداً بأن ذلك الرجل البدوي ليس له أمانة عندي فلو بينت له بأن لا مبالغ تخصه عندي لكان قد صاح بأعلى صوته بأني قد أكلت حلاله، فماذا ستكون عليه سمعتي بعدها؟ رحمك الله يا أبا عبدالله (يوسف العبدالهادي الميلم)، فقد ضربت أروع الأمثلة في الحفاظ على السمعة الحسنة للتاجر الكويتي في كويت الماضي.
وهذا كان حال الكثير من آبائنا في كويت الماضي، يشترون سمعتهم بأي ثمن، وينفقون أموالهم في سبيل الحفاظ رأسمالهم الحقيقي وهو السمعة والذكر الحسن، رحم الله هذه النماذج الطيبة ومن على شاكلتهم، ورزقهم جنات النعيم جزاءً على طيب سيرتهم وحسن سريرتهم.