يكثر في رمضان أن يرى الناس بعض الأئمة ينصبون حامل المصحف، يضعون فيه مصحفاً كبير الحجم، يقرؤون منه في صلاة التراويح، خشية النسيان، وتجنباً للغلط الذي يحصل أحياناً بسبب خطأ الإمام في القراءة، على أن من الناس من يرفض الصلاة في المساجد التي يقرأ فيها الأئمة من المصحف، باعتبار أن هذا العمل غير مشروع.
ومذاهب الفقهاء في تلك المسألة على رأيين:
الرأي الأول: جواز القراءة من المصحف في النافلة وكراهته في الفريضة:
وإلى هذا الرأي ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، كما ذهب إليه من المعاصرين الشيخ ابن باز، رحمه الله، وهو رأي الشيخ عطية صقر، رئيس لجنة الفتوى بالجامع الأزهر، رحمه الله، وغيرهم، ورأوا أنه يجوز القراءة من المصحف في النافلة، كالتراويح والتهجد ونحوهما، وهو مكروه في الفريضة، ولا يبطلها، فله أن يقرأ في الفريضة عند الحاجة إليها، وإن كان هذا خلاف الأولى.
أدلة القول بالجواز:
وقد استدل جمهور الفقهاء على جواز القراءة من المصحف في صلاة النافلة بعدد من الأدلة، منها ما ورد عن عائشة رضي الله عنها: “أنها أمرت مولاها ذكوان أن يؤمها في قيام رمضان وكان يقرأ من المصحف”، ذكره البخاري في صحيحه معلقاً، وسئل الزهري عن رجل يقرأ في رمضان في المصحف فقال: “كان خيارنا يقرؤون في المصحف”.
كما أنهم استدلوا بدليل الحاجة إلى القراءة في المصحف، خاصة كون صلاة التراويح طويلة، وتحتاج إلى سماع القرآن الكريم، فأبيحت للحاجة.
وقد نقل عن كثير من الأئمة القول بالجواز، قال أحمد: لا بأس أن يصلي بالناس القيام وهو ينظر في المصحف، قيل له: في الفريضة؟ قال: لا، لم أسمع فيه شيئاً، وقال القاضي: يكره في الفرض، ولا بأس به في التطوع إذا لم يحفظ، فإن كان حافظاً كره أيضاً، قال: وقد سئل أحمد عن الإمامة في المصحف في رمضان؟ فقال: إذا اضطر إلى ذلك.
وعلل ابن قدامة الكراهة لمن لا يحفظ، فقال: واختصت الكراهة بمن يحفظ لأنه يشتغل بذلك عن الخشوع في الصلاة، والنظر إلى موضع السجود لغير حاجة، وكره في الفرض على الإطلاق؛ لأن العادة أنه لا يحتاج إلى ذلك فيها.
وقال النووي رحمه الله في المجموع (4/27): لو قرأ القرآن من المصحف لم تبطل صلاته سواء كان يحفظه أم لا، بل يجب عليه ذلك إذا لم يحفظ الفاتحة.
وهذا الذي ذكرناه من أن القراءة في المصحف لا تبطل الصلاة مذهبنا ومذهب مالك وأبي يوسف ومحمد وأحمد. انتهى.
واشترط الشيخ عطية صقر ألا يَفعل حركات تُبطِل الصلاة، كوضْع المصحف ثم حمْله وفتْحه لِيقرأ منه، فإن ثلاث حركات ليس بينها فاصل طويل تُبطل الصلاة، وقد يُستعان على عدم كثرة الحركات بوضع المصحف ذي الخط الكبير على شيء مرتفع أمام المصلِّي ليقرأ منه الصفحة والصفحتين، ولا يحتاج إلى تقليب الأوراق كثيرًا، والقليل من التقليب لا يُبطل الصلاة، قال النووي في المجموع: ولو قلَّب أوراق المصحف أحيانًا في صلاته لم تَبطُل.
الرأي الثاني: القراءة من المصحف في الصلاة باطلة:
وذهب الإمام أبو حنيفة، رحمه الله، وهو رأي الظاهرية أيضاً، إلى بطلان الصلاة إن قرأ المصلي من المصحف فيها، سواء كانت القراءة كثيرة أو قليلة، لا فرق بين الإمام والمأموم المنفرد، حتى ولو كان أمياً لا يجيد القراءة منه.
أدلة القول بالتحريم:
ومن الأدلة التي استند إليها أبو حنيفة ومن وافقه ما رواه ابن أبي داود في “كتاب المصاحف” أن ابن عباس قال: نهانا أمير المؤمنين أن نَؤمَّ الناس في المصاحف.
كما ذكروا لأبي حنيفة في علة الفساد وجهين:
الوجه الأول: أن حمل المصحف والنظر فيه وتقليب الأوراق عمل كثير، والوجه الثاني: أنه تلقن من المصحف فصار كما لو تلقن من غيره، وعلى الثاني لا فرق بين الموضوع والمحمول عنده، وعلى الأول يفترقان.
واستثني من ذلك ما لو كان حافظاً لما قرأه وقرأ بلا حمل، فإنه لا تفسد صلاته؛ لأن هذه القراءة مضافة إلى حفظه لا إلى تلقنه من المصحف ومجرد النظر بلا حمل غير مفسد لعدم وجهي الفساد.
وقيل: لا تفسد ما لم يقرأ آية؛ لأنه مقدار ما تجوز به الصلاة عنده.
وذهب الصاحبان -أبو يوسف ومحمد- إلى كراهة القراءة من المصحف إن قصد التشبه بأهل الكتاب. انتهى
الترجيح:
والراجح هو جواز القراءة من المصحف في النافلة كالتراويح والتهجد دون الفريضة، وذلك لما يلي:
أولاً: أن صلاة الفريضة لا يشترط فيها تتابع القراءة، أو القراءة الكثيرة، فيكفي فيها بضع آيات، بخلاف النافلة.
ثانياً: أن الحاجة إلى الاستماع للقرآن الكريم في رمضان خاصة، مع كون ليس كل الناس يحفظون، فتجوز للحاجة.
ثالثاً: أن الحركات في الصلاة لا بأس بها إن كانت في مصلحة الصلاة، ثم إن مصلحة كثرة القراءة في النافلة راجحة.
رابعاً: ما نص عليه الفقهاء من أنه يتخفف في النافلة دون الفريضة.