أمسك بالقلم واجتهد أن يكتب رسالة، تأخر كثيرا، فمنذ سنوات وهو يبحث عن عنوانه، تعب من السؤال والتحري أين يسكن ذلك الساحر الذي اختزن كل تلك المفردات، حين اهتدى إلى عنوانه البريدي كانت الكوليرا تجتاح أمكنة عدة في العالم؛ أخبره أحد العرافين أن خطابا كهذا يحمل فألا غير حسن، قد يأتي بنتيجة عكسية؛ فالكوليرا تنتقل من خلال الحديث عن أصحابها، لو عرفت أمه بهذا لأصابها الهلع؛ إنها تخاف على حياتها، فمن عادة المرأة أنها تشتهي أن تعيش عمرا يقارب سني نبي الله نوح؛ تمنى أن يسطرها منذ زمن؛ استهوته روايات العم ماركيز؛ في هذه الرسالة يود أن يسأله عن كتاباته ومن أي بئر خفي يأتي بكل تلك الصور والحكايات، حين أخبر أمه عن ذلك الكولومبي الفاتن؛ ضحكت منه؛ أخبرته أنه ساحر؛ فرجل يكتب كل هذه الحكايات ولا يصاب بالملل لابد أن لديه نوع غريب من الجنون.
أو لعله يخفي سر حكاياته عن المحيطين به؛ يقال إنه يزاوج بين الحروف عند منتصف الليل حين يغيب القمر.
-لكنك يا أمي لا تعرفينه؛ هكذا أجابها، إنك لا تعنين بغير حديث الراحلين من الأجداد، هل تدبين ليلا من فراشك ومن ثم تعيشين في مائة عام من العزلة وقد اقتربت منها.
-نظرت إليه ثم استطردت: يا بني حين كنت صغيرة وكثيرا ما تلح أنها ما تزال تلك الفتاة التي كانت ترتدي الثياب البيضاء ومن ثم تشاهد حكايات الراحلين ممن كانوا يجوبون الحارات والأزقة.
إنها تكاد تتذكر هؤلاء الذين ارتدوا القبعات الحمراء أشبه برعاة البقر في الأفلام الأمريكية ممن كانت تحب أن تشاهدهم في القرن الماضي من خلال شاشة التلفاز ذات اللونين الأبيض والأسود؛ كثيرا ما كانت تطلق على ذلك الصندوق الأسود بأنه مصاب بعمى الألوان.
في أحيان كثيرة كانت تصفه بالبله والغباء الشديد.
لم يشأ أن يخبرها بكل روايات العم ماركيز يكفيها ما أصابها من الخرف، إنها تظل ليلة كاملة تسرد حكايات مات أصحابها؛ تروى له قصة الذي سرق القمر أو تلك التي غرقت في النهر وقد أمسكت بها الجنية الحمراء ممن يسكن في شق الأرض وعيونهن أعلى رؤوسهن، هل يخبرها عن متاهة الجنرال؟
في ذاكرتها ألف واحد من هؤلاء الذين ملئوا الكفور والنجوع وتحدثت عنهم الجدات في ليالي الشتاء؛ قرى كل أهلها يمتازون بعيون خضراء وملامح وجوه شقراء؛ فقطار الدلتا كان دابة لهؤلاء الجنرالات الذين جاءوا من بلاد ما وراء الشمس.
أخبرته أنها تشبه الجدة الطيبة “أرسولا” تتمتع بذاكرة أقوى من الصلب، لكنها تخشى على أحفادها من ذلك الوحش الذي يسكن السرداب في الحارة المعتمة التي تمتلئ بالغيلان ذوات الحافر؛ أشبه بالعنزات تأتي عند منتصف الليل وتلتهم البراعم الخضراء من شجرة التوت حارسة الأرض.
حين تنظر في المرآة تحسب نفسها مريم البتول قد احتضنت وليدها المبارك، تفر به من أيدي هؤلاء الذين يبحثون عنه ليرفعوه فوق الخشبة الغليظة، ثم بعد يمشون في طريق الآلام يشتهون العشاء الأخير وأيديهم ملطخة بالدماء.
إنها تجوب البلاد تبحث عن مغارة، كيف لها أن تمنعه من هؤلاء؛ لم تعرف الكره يوما.
ماذا يكتب إلى الماركيز؟
هل يطلب منه أن يكتب عن سعار الحروب الذي يفترس الصغار والنساء والعجائز ويتركهم بلا مأوى أو قطع لحم في العراء؟
لو فعل الماركيز ذلك لأصابته لعنة الجالسين في البيوت المكيفة ممن يحتسون الخمر ليلة الميلاد.
ربما كل تلك الحكايات لن تصل إليه؛ لو أن الجدة كانت تجيد الكتابة لأرسلت إليه بكل تلك الأشياء؛ يحب الحكايات ترويها الجدات، حين كان الماركيز صغيرا استمع لجدته ومن ثم وهبته الكثير منها. لم تعد كل تلك الكتب التي تمتلئ بها خزانته تشبعه؛ إنه يبحث عن أشياء غريبة، لقد ارتحل إلى ضفة العالم الآخر وترك قلمه فوق المنضدة لا يجد من يسطر به حكاية جديدة؛ حتى الجدة فقدت ذاكرتها وصارت ترسل بخطابات إلى العم ماركيز دون أن تهتدي إلى عنوانه.