سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- منارة نور وهداية لكل من اقتفى أثره واتبع هداه وسار على نهجه، وقد شهدت الدعوة الإسلامية على يديه مرحلتين مهمتين كان لهما الأثر الأكبر في رسم معالم مستقبل هذا الدين؛ فالمرحلة الأولى مرحلة البدايات القائمة على السرية والتخفي ليأتي بعد ذلك ويصدع النبي -صلى الله عليه وسلم- على الملأ بدعوته؛ ليكون هذا الصدع بالدعوة صدعا حقيقيا بين القوم؛ فيشقهم شقين إما مؤمنا وإما كافرا، ويتحمل أتباع هذا الدين أعتى حملات التعذيب والتهجير والتنكيل، سلاحهم الصبر والثبات ودعوات من النبي الأكرم تسري عن المهموم منهم، وتربط على قلوبهم إلى أن يقضي الله فيهم أمره.
ثم تأتي المرحلة الثانية لتبدأ بالهجرة في محاولة لإيجاد موطن جديد يؤوي المولود الجديد والأخير من رسالات السماء، موطن معنوي ومادي يؤوي القلوب والأجساد على حد سواء؛ فكان لا بد لهذا الموطن من أسس ودعائم يقوم عليها فتكون بذلك أساسه المتين وحصنه المنيع في انطلاقته بدعوته الجديدة للبشر كافة على اختلاف ألسنتهم وثقافاتهم وجنسياتهم، فما أن وطئت قدما النبي الشريفة أرض يثرب وإذ به -صلى الله عليه وسلم- يشرع بوضع اللبنة والدعامة الأولى لهذا المجتمع الفتي، وهي بناء مسجد يجمع الأخوة الذين تشاركوا رحم العقيدة وإن اختلفت أرحام الأمهات، وخطوته -صلى الله عليه وسلم- هذه ومباشرته بها إن دلت على شيء إنما تدل على أهمية المسجد في حياة الفرد والمجتمع وقيمته التي أدركها النبي المرسل، ليكون المسجد بذلك المنارة التي تضيء الدروب، والسارية التي تجتمع في ظلها أفئدة العباد بأجسادهم وأرواحهم وفي محرابه تعرج إلى رب السماء.
والمسجد بيت من بيوت اللّه، أهميته أكبر من أن يكون مكانا معداً للعبادة؛ إذ أن الأرض كلها جعلت مسجداً وطهوراً وإن كان هذا جزءاً من وظائف المسجد ودوره ولكنه أكبر من أن يُختزل دوره في هذا الدور الأوحد من بين كل الأدوار الذي يجب أن يكون المسجد جامعها وحاويها، وهو ما نبه عليه الغزالي قائلاً: “والمسجد الذي وجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- همته إلى بنائه قبل أي عمل آخر بالمدينة ليس أرضاً تحتكر العبادة فوقها، فالأرض كلها مسجد، والمسلم لا يتقيد في عبادته بمكان! إنما هو رمز لما يكترث له الإسلام أعظم اكتراث، ويتشبث به أشد تشبث، وهو وصل العباد بربهم وصلاً يتجدد مع الزمن، ويتكرر آناء الليل والنهار، فلا قيمة لحضارة تذهل عن الإله الواحد، وتجهل اليوم الآخر، وتخلط المعروف بالمنكر” (فقه السيرة).
والمسجد مجتمع مصغر عن المجتمع الكبير الذي يضم الناس، له قوانينه ووظائفه ومسؤوله وآدابه وحدوده وحقوقه، ويكمن أهمية المسجد في عدة أمور:
1- بيت من بيوت الله يجتمع الناس فيه على ذكر الله وعبادته، تتغشاهم وتتنزل عليهم الرحمات لقوله صلى الله عليه وسلم: “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده” (سنن أبي داوود).
2- يرتقي به المسلم ويعرج بروحه وقلبه إلى السماء، فما أن تدخل قدمه حتى يلقي عن كاهله كل الأحمال والأثقال ومشاغل الدنيا فيطير إلى الله من أوحال الأرض وأثقالها إلى أنوار السماء وخيراتها.
3- جامعة للعلوم وحلقات العلم وتعليم الناس أحكام دينهم، ومنبر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4- يتعرف الناس ويتقرب بعضهم إلى بعض، فيفتقدون غائبهم ويعودون مريضهم ولن يتم ذلك ما لم يتلاق المسلمون يومياً على مرات متعددة.
5- مدرسة للنظام وضبط المواعيد وتوحيد الصف وجمع الشتات وإثار طاعة الله وأمره على أهواء النفس وشهواتها.
6- شيوع أواصر المحبة والأخوة وإسقاط الفوارق بينهم سواسية كما أسنان المشط لا فرق بين غني وفقير ولا صغير ولا كبير فالكل سواسية في محراب العبودية.
7- مكان يتعرف الناس ويستطلعون قضاياهم وقضايا الأمة.
8- القلعة التي تنطلق منها الجيوش تبليغاً لرسالة السماء وتذليل الصعاب من أمامها لتبلغ القاصي والداني.
ولما للمسجد من أثر وأهمية في تربية الفرد والمجتمع فإن اليد التي امتدت لمؤسسات التربية والتعليم والتلاعب فيها والتبديل في مناهجها هي اليد ذاتها التي امتدت للمساجد ومحاولة تغييب دورها عن الحياة، وذلك بعمدها لجعلها مكاناً للصلوات الخمس وحسب، بل ويبلغ الأمر الزبى ويزيد الطين بلة عندما ضمت المساجد بل الأوقاف كلها لجعلها مؤسسة حكومية صرفة توجهها الوجهة التي تبغي، وتضع لها برامجها التي تناسبها وتصب في خدمتها بل وتعمم الخطبة على الأئمة ليتكلموا في قضايا تُنتقى لهم انتقاء وفق معايير يرتئيها النظام السائد.
إنّ عودة المسجد لدوره الذي أنشئ له ابتداء واستقلاليته عن قوانين البشر فلا يستمد أحكامه وقوانينه إلا من وحي السماء فيتخلص من كل تبعية تدور في فلك البشر ليكون مشعل النور والهداية الذي يرتوي منه الناس فيضبطوا خطواتهم على أنواره ويصححوا مسار أفئدتهم وبوصلة أرواحهم فتعرج بهم من طينية الأرض إلى نور السماء، وقتها فقط تعود رسالة المسجد لطبيعتها التي فقهها المسلمون الأوائل فساروا على أنوارها فجمعت أشتاتهم ووحدت صفوفهم من بعد تشرذم وتفرق، وأزالت من دروبهم عقبات الأثرة والتعالي والأنانية فانصهروا جميعاً في بوتقة من الوحدة الراسخة التي تتحطم على أعتابها كل دواعي التفرق والاختلاف.
________________________
(*) المصدر: “بصائر تربوية”.