فُجعت الأمة الإسلامية، اليوم، بخبر وفاة حصن من حصون الإسلام، ومعول في هدم جدران الباطل العتيد الدكتور المفكر محمد عمارة، بعد رحلة طويلة قضاها في مواجهة الباطل والألحاد.
ولد الدكتور محمد عمارة مصطفى عمارة في 8 ديسمبر سنة 1931م في قرية (صرورة) التابعة لمركز دسوق محافظة الغربية في ذلك الوقت، وهي حاليا تابعة لمركز قلين بمحافظة كفر الشيخ.
نشأ وتربى في بيئة ريفية غرست فيه معاني الاستقامة وحب الدين والشعائر الإسلامية، وقد نذر والده لله –وهو في بطن أمه- إن قُدر هذا الحمل ولدا فسوف يسميه محمدا ويهبه للعلم الشرعي من قرآن وفقه وحديث، فتقبله ربه بقبول حسن.
التحق بالتعليم الابتدائي الأزهري في مدينة دسوق سنة 1945، وهو في الرابعة عشر من عمره، وكانت شرط الالتحاق بالسنة الأولى الابتدائية الأزهرية أن يكون حافظا ومجودا للقرآن الكريم وملمًا بقواعد الإملاء والحساب، وأن يكون جيد الخط، وتم اجتياز اختبارات القبول، وشارك في شبابه بمدينة دسوق في التظاهر ضد الاتفاقية صديقي بيفين عام 1946م وكانت أول مشاركة سياسية.
انتقل للمعهد بالمعهد الأحمدي الثانوي بطنطا، وأثناء دراسته في المعهد الثانوي بطنطا انضم إلى حزب مصر الفتاة، وفى سنة 1950 و1951 كتب في صحيفتها شعرا ونثرا، وهو طالب في المعهد الثانوي، وكان أول مقال نشرته له صحيفة “مصر الفتاة” بعنوان “جهاد عن فلسطين”.
عمارة الباحث عن الحقيقة
أثناء دراسته في دار العلوم كانت الأفكار الاشتراكية تأخذ مكانها، وكان حزب مصر الفتاة يمزج بين الفكر الاشتراكي والفكر الإسلامي، فامتزجت لديه النزعة الوطنية التحررية والنزعة الاجتماعية مع نزعة الانتماء الإسلامي، وامتزج الأمر معه حتى أعلن عن ماركسيته في فهم الدين، إلا أنه اكتشف خطر الماركسية على الإسلام والأمة فكان خصمها اللدود الذي فضحها على الأشهاد.
وفى دار العلوم كانت له نشاطات في العمل الوطني والفكري والثقافي مما عرضه للفصل لمدة عام سنة 1957، وفى يناير 1959م وهو في السنة الرابعة بكلية دار العلوم تم اعتقاله لمدة خمس سنوات ونصف أثناء فترة اعتقالات التيار اليساري في مصر، وبعد خروجه من المعتقل حصل على الليسانس سنة 1965م وعمره أربع وثلاثون سنة.
التحق بالدراسات العليا بالكلية وتخصص في الفلسفة الإسلامية ونال درجة الماجستير عن موضوعه “مشكلة الحرية الإنسانية عند المعتزلة” سنة 1970م، وناقش الدكتوراه سنة 1975م في موضوع “نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة”. وتم التصديق على الدكتوراه بعد عام بسبب أن أحد الأستاذة عرقل التصديق عليها بحجة أن بها آراء مجددة وآراء لا يرضى عنها!
التحول الفكري
وفى تلك الفترة في أوائل السبعينات بدأ التحول الفكري من الاتجاه الماركسي الاشتراكي إلى الإسلام بعد أن تشرب الفكر الاشتراكي وعرف سلبياته، وأدرك أن ما به من محاسن فهو موجود بالفعل في الإسلام، لذلك بدأ نشاطه العلمي في إظهار محاسن الإسلام وتعرية دعاة الماركسية الاشتراكية مستخدما مصطلحاتهم البراقة التي يجذبون الناس إليها، مثل: الحرية والعدالة والتكافل الاجتماعي.
وعاش الدكتور محمد عمارة حياة بسيطة لا يطلب من الدنيا مغانم ولا يلهث وراء منصب أو جاه، ولو أراد المناصب والأموال لنال منها ما تشتهى نفسه وتتمنى، لكن نفسه لم تكن تطلب غير رضا الله، وقد رزقه الله من الأولاد بخالد ونهاد وقد وصف تربيتهم بقوله: كان لي منهج في تربية خالد ونهاد يعتمد على خلق ألفة بينهما وبين الكتاب، فكانت لعبتهما الأثيرة “الشخبطة” بالقلم على الورق. وكانت هداياي لهما في كل المناسبات كتبًا، يقرؤون إهداءاتها فيرتبطون أكثر بالقراءة التي نشئوا يحبونها، وهذا أدى إلى انضباط البيت وهدوئه.
معاركه الفكرية
لعبت عدة عوامل رئيسة في تشكيل ثقافته واهتماماته الفكرية مثل ثقافته الإسلامية الأزهرية، وثقافته الفكرية المعاصرة، وشخصيته وميوله الثورية المؤمنة بالحرية والعدالة وهي مؤثرات أثرت لديه الحس والجانب الثقافي والفكري، ومزج تعاليم الدين وبالدليل العقلي الذي لا يجزى سواه في مواجهة أصحاب الفكر المعوج.
لم يدخر الدكتور محمد عمارة جهدا في مواجهة الحداثة الفكرية بفكر إسلامي مستنير فكتب مثلا عن العلمانية، وأنها ترجع نسبتها إلى العالم وليس للعلم، فيقال العالمنية وليس العلمانية، فهي لا تؤمن بإله للكون، وفي سبيل ذلك دخل في معارك مع المستشار محمد سعيد العشماوي في كتابه “سقوط الغلو العلماني”.
كما اشتبك في نقاط كانت في غاية الحساسية فقد كتب عن الأقباط بكتب، منها: “في المسألة القبطية حقائق وأوهام”، و”عروبة مصر وأقباطها”، و”أكذوبة الاضطهاد الديني في مصر”، و”الأقباط المتطرفون في مصر”، و”الفتنة الطائفية.. متى وكيف ولماذا؟”، تعرض فيه لما يثيره الأقباط من مزاعم حول اضطهادهم، ومحاولاتهم بين الحين والآخر زعزعة الاستقرار في مصر، وطلب التدخل الأجنبي في مصر تحت مسمى الاضطهاد الديني، وتصدى لما يثيره الأقباط من تهجم على الإسلام والإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
كما أسهم في كتبه وأحاديثه حول المرأة و مظاهر تكريم الإسلام لها، ورد على الشبهات التي يثيرها العلمانيون حول المرأة في الإسلام والظلم الاجتماعي لها، ومن كتبه في هذا الصدد: “الإسلام والمرأة” و”تحرير المرأة بين الغرب والإسلام” و”شبهات وإجابات حول مكانة المرأة في الإسلام”، و”التحرير الإسلامي للمرأة” و”في التحرير الإسلامي للمرأة”.
وكتب كثيرا من الكتب حول الهوية الثقافية للأمة في عصر العولمة والمعطيات الحضارية للإسلام، وأبرز الوجه المشرق للإسلام تاريخا وثقافة وحضارة، ورد على ما يثار حوله، مما عرضه لكثير من الانتقاد خاصة من العلمانيين واليساريين حتى كتب أحدهم كتابا بعنوان “محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة”.
عرف العلماء قدر الدكتور محمد عمارة حتى نظم مركز الإعلام العربي مؤتمرا في 2 من نوفمبر 2011م لتكريم الدكتور محمد عمارة بنقابة الصحفيين بمصر، وحضر حفل التكريم قيادات جماعة الإخوان المسلمين كما حضره قادة الفكر الإسلامي في مصر، حيث أشاد فيه الدكتور يوسف القرضاوي بالمعارك الفكرية التي خاضها عمارة دفاعا عن الإسلام. وأشاد العلماء والمثقفون بمسيرة عمارة، وحرصوا على إلقاء كلمات للاحتفاء بعلمه وإسهاماته الفكرية المتميزة، حيث أوضح عضو مجمع البحوث الإسلامية أحمد كمال أبو المجد أن الطريق الذي انتهجه عمارة هو الطريق الذي كان يتمناه لنفسه.
عمارة وشباب الثورة
ما إن تحرك الشباب حتى كان الدكتور عمارة يعود مثلهم شابا في أفكاره وروحه الثورية، فأصدر بيانا مع مجموعة من العلماء أيد فيه ثورة الشباب ووصفها بقوله: “إننا أمام ثورة شعبية من أعمق الثورات الشعبية التي عاشتها مصر في العصر الحديث. أريد أن أقول إن هذه الملحمة والثورة الشعبية قد كشفت الغبار والمعدن الحقيقي لهذا الشعب الأصيل، وعلى الشعب رغم كل البيانات والخطب أن يظل في ثورته مؤججا هذه الثورة، صانعا هذا المجد الثوري حتى تتحقق مطالبه”… وذكر أن الضمان الأول والأساسي والحقيقي هو بقاء الثورة مشتعلة حتى تتحقق كل مطالب الثورة، بل إنه وثق كتابا عن الثورة بعنوان “ثورة 25 يناير، وكسر حاجز الخوف”.
حصل على العديد من الجوائز والأوسمة والشهادات التقديرية والدروع، منها “جائزة جمعية أصدقاء الكتاب، بلبنان سنة 1972م”، وجائزة الدولة التشجيعية بمصر سنة 1976، ووسام التيار الفكري الإسلامي القائد المؤسس سنة 1998م، وأصبح عضوا للمجمع الإسلامي وعضو المعهد العالي للفكر الإسلامي.
مؤلفاته
لم يبخل الدكتور عمارة عن إثراء المكتبة بالكثير من المؤلفات التي كان لها تأثيرها في نفوس كثير من الشباب والشعوب مثل:
- الإسلام والشريعة الإسلامية.
- الإسلام و ضرورة التغيير.
- الإسلام والمستقبل.
- الإسلام في مواجهة التحديات.
- الإسلام و الثورة.
- الإسلام بين التنوير والتزوير.
- الإسلام و الفنون الجميلة.
- الإسلام في عيون غربية.
- الإسلام و حقوق الإنسان.. ضرورات لا حقوق.
- الشريعة الإسلامية و العلمانية الغربية.
- الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان و مكان.
- السماحة الإسلامية… حقيقة الجهاد و القتال والإرهاب .
- هل الإسلام هو الحل.
- حقائق الإسلام في مواجهة المشككين.
- الغناء و الموسيقى حلال أم حرام. وغيرها ما زاد عن 120 مؤلف أثرى بهم المكتبة الفكرية
وترجل الفارس
وفي مساء الجمعة الموافق 4 رجب من عام 1441هـ الموافق 28 فبراير 2020م أعلن نجله الدكتور خالد عمارة وفاة والده الدكتور محمد عمارة بعد صراع مع المرض عن عمر ناهز 89 عاما، حيث تم تشييع جنازته ودفنه في مسقط رأسه بكفر الشيخ.
للمزيد:
- مجدي رياض : رحله في عالم الدكتور محمد عمارة، مؤسسه دار الكتاب الحديث، بيروت , 1989.
- أشرف عيد: محمد عمارة جهاد في خدمة الإسلام، إخوان ويكي،