نتناول اليوم المقولة الرابعة للمفكر الفلسطيني إسماعيل الفاروقي: “التوحيد مبدأ الغيب”، وجوهر هذه المقولة يقوم على فردانية الله تعالى في ملكيته للكون بكل ما فيه منذ الخلقة حتى المصير, وأنه لا توجد قوة أخرى تشاركه في ذلك, ورغم ملكية الله تعالى للكون وما فيه, إلا أنه أودعه “السنن” كي يقوم الإنسان بممارسة دوره في العمران بلا محاباة أو تحيز { كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}[ الإسراء:20].
يعنى التوحيد بالضرورة نفي وجود أي قوة فاعلة أخرى مع الله تعالى، الذي فطر الكون، على سنن أبدية لا تغيير لها ولا تبديل. ويرقى ذلك إلى مصاف الإقرار بأن كل مبادرة من جانب أي قوة طبيعية، محكومة في نهاية المطاف بقدرة الله تعالي وتصريفه. وبذا تنتفي أوهام السحر والشعوذة والأرواح الشريرة، وأية تصورات مشعوذة عن تدخل تحكمي من جانب أي مخلوق في عمليات الطبيعة. بلغة أخرى، فإنه بالتوحيد تتم المفاصلة بين الطبيعة، وبين الآلهة والأرواح المزعومة الخاصة بالأديان البدائية، وخرافات السذج والجهلة.
“السننية” ضد السحر والشعوذة والخرافة
لم يقصد بمفهومي “علمانية” أو “دنيوية” الطبيعة، في تاريخ العلم، أكثر من تخليصها من الكثير من الأسباب الخرافية ومن الأشباح والأرواح التي فسر بها المؤمنون بالخرافة والمتاجرون بالكهانة أحداثًا طبيعية بالزور والبهتان. فالعلم لا يحتاج لنفي فعل الله في الطبيعة، بل لتخليصها من أساطير الأرواح والأشباح الفاعلة فيها على نحو مزعوم وتعسفي، ولا يمكن التنبؤ به. وعلى النقيض من ذلك، فإن فعل الله في الكون، ليس تحكميًا، بل يخضع لسنن لا تتبدل ولا تتغير. فالله تعالى يقول: ) فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا( [فاطر:43].
والله تعالى ليس عدوًا للطبيعة. بل إن سننه في الكون هي الشرط الضروري للعلم الطبيعي. ذلك أن العالم إذا لم يقم علمه على افتراض أن نفس الأسباب تفضي إلى نفس النتائج على الدوام، وهذا هو مقتضي ثبات وديمومة السنن الإلهية الكونية، فإن العلم يعجز عن تأدية وظيفته.
فالتوحيد يجمع كل خيوط علاقة السببية ويعود بها جميعًا إلى الله تعالى، وليس إلى قوى خفية. وهو بصنيعه هذا يجعل قوة السببية الفاعلة في كل حدث، وفي كل شيء منظمة، تشكل خيطًا متصلاً من السببية من الوجهة الاستقرائية. ولما كان هذا الخيط المتصل من السببية هذا ينتهي عند الله تعالى، ويظل أمره بيده، فإن ذلك يتطلب عدم وجود قوة خارجه تتدخل في تصريف قوة السببية أو الفاعلية المودعة فيه. ويفترض ذلك بدوره أن تكون العلاقات بين أجزائه سببية، وتقبل الفحص والإثبات التجريبي.
ومعنى كون قوانين الطبيعة سننًا إلهية لا تتبدل ولا تتغير، أن الله تعالى يحرك خيوط السببية عبر أسباب نمطية. والنمط لا ينتج إلا عن وجود علاقة سببية ثابتة بين السبب والمسبب. وثبات العلاقة بين العلة والمعلول هو، بالضبط، الذي يجعل الفحص والاكتشاف، ومن ثم يجعل العلم ممكنًا.
فالعلم لا يعدو كونه بحثًا عن مثل تلك السببية المتكررة في الطبيعة، لأن علاقات السببية المشكلة لخيط سببية ما تتكرر في خيوط السببية الأخرى المناظرة له. والبرهنة على وجود مثل تلك العلاقة مناظر لاكتشاف قوانين الطبيعة، وهو الشرط المسبق لإخضاع قوى السببية في الطبيعة للضبط والهندسة. وهو بالتبعية الشرط الضروري لانتفاع الإنسان بها. وهو من ثم الفرضية المسبقة لكل ما يبدعه الإنسان من تقنيات.
الغرب المعاصر ووجود الله
جحد عدد من العلماء الغربيين المحدثين وجود الله، وفصلوا بينه وبين الطبيعة، كما لو كان ذلك ممكنًا. ومرد فعلتهم تلك هو كراهيتهم للكنيسة المسيحية، وما ادعته لنفسها من سلطة بلا أي وجه استحقاق، على المعرفة كلها، بما فيها معرفة الطبيعة. ولم تستطع العلوم الطبيعية أن تزدهر في الغرب، إلا بعد أن أقدموا على تلك الخطوة. فعلى مدى ألف سنة، لم ينتج المسيحيون علمًا طبيعيًا بسبب هيمنة الكنيسة هذه. وصادرت الكنيسة على أية إمكانية لتحريك الروح العلمية، نتيجة نهجها المفارق، ولاهوتها التجسيدي، وتعاليمها التسلطية التي خاضت بلا سند، من منطلق تحكمي، في قضايا العلم الطبيعي. وعضدت سلطة الكنيسة، الأسطورة والخرافة. ونظرت الكنيسة إلى إزالة الأسطورة والخرافة على أنه بمنزلة تهديد لسلطتها. وسعت الكنيسة إلى حراسة أساس وجودها ذاته، بالتخلص من العلماء. ومع ذلك، فإن العلماء كسبوا معركتهم بالتدريج. انهزمت الكنيسة.
الكون الغائي
يؤكد التوحيد أن نظام الطبيعة لا يقتصر على النظام المادي للعلل والمعلولات -وهو النظام الذي يجليه المكان والزمان وما شاكل ذلك من مقولات نظرية، لأفهامنا- فالطبيعة ساحة بذات الدرجة، لغايات. فلكل شيء فيها غاية، يساهم بتحقيقها في إثراء الكل وتحصيل توازنه. وكل شيء في الوجود من أصغر حصاة جامدة في الوادي، ومن أصغر الأحياء المائية العالقة على سطح مياه المحيطات، ومن السوطيات الميكروبية الكائنة في أحشاء صرصور، إلى المجرات وشموسها، إلى أشجار الصنوبر العملاقة والحيتان والفيلة، وبالجملة كل مخلوق بأصل نشأته، ونموه، وحياته ومماته، يحقق غاية خلقه الله ليحققها، ضرورية لبقية المخلوقات.
الطبيعة مملوكة لله تعالى بالأصالة
يقوم المبدأ الإسلامي في الغيب على ركيزتين، الأولى ما ورائية غيبية، قوامها اعتبار كل ما بالوجود مملوكًا لله تعالى. والثانية هي البعد الأخلاقي في تعامل الإنسان مع الموجودات. فالإسلام يعلم البشر أن الطبيعة خلقت لتكون مسرحًا لعمل الإنسان، وحقلًا ينمو فيه ويزدهر، ويستمتع بنعم الله تعالى، ليبرهن بقيامه بذلك على جدارته الأخلاقية. ويرتبط هذا المبدأ بأربعة معطيات: أولها، أن الطبيعة مملوكة لله تعالى، وليس للإنسان. وحصل الإنسان من الله تعالى على حق الانتفاع بها، على النحو الذي حدده سبحانه وتعالى له. وهو مطالب برعاية ما وضعه الله تعالى تحت تصرفه بصفة أمانة.
ومن المقطوع به أن حق الانتفاع لا يخول الإنسان حق تدمير الطبيعة، ولا حق استغلالها على نحو يفسد التوازن البيئي أو يدمره. وحق الانتفاع الذي هو كل ما يمتلكه الإنسان حق فردي يجدده الله تعالى مع كل فرد لدى مولده. وهذا الحق لا يقبل الإنابة، ولا الوراثة، ولا يخول لحد حق المصادرة على مستقبل تمتع الآخرين به. ومن المفترض أن يسلم الإنسان، بوصفه خليفة بأمر الله تعالى في الأرض، بل في الكون، الأمانة لربه لدى موته، في وضعية أفضل من تلك التي تسلمها عليها.
وثانيها، أن نظام الطبيعة مسخر للإنسان بحيث يستطيع أن يدخل عليه ما يشاء من تغيير. فلقد خلق الله تعالى الطبيعة مطواعة وقابلة لتدخل الإنسان في عملياتها، فضلاً عن إمكانية تغيير سلسلة علاقة السببية الطبيعية بفعل الإنسان. وما من ساحة ولا مجال في الطبيعة، إلا وهي وهو داخل الإطار المتاح للسعي الإنساني. وثالثها، أن الإنسان مكلف في انتفاعه بالطبيعة واستمتاعه بها، بالتصرف على نحو أخلاقي. فالسرقة والخداع والإكراه والاحتكار والاكتناز والاستغلال والأنانية، وبلادة الحس تجاه احتياجات الآخرين، كلها خصال لا تليق به كخليفة مؤتمن في أرض الله، وهي من المحرمات القطعية. انظر: [المائدة: 38]، و [الهمزة:1-4]، و[الماعون:1-7].
والأمر الرابع والأخير، أن الإسلام يأمر الإنسان بالتنقيب عن سنن الله في الكون وتفهمها، ليس فقط فيما يتعلق بالسنن التي تتشكل منها العلوم الطبيعية فقط، بل، بذات الدرجة، بتلك السنن التي تشكل جمال الطبيعة ونظامها العام أيضًا. وتضفي حقيقة أن الطبيعة من صنع الله تعالى، وهو فاطرها ومدبر أمرها، وهي تجسيد لمشيئته، هالة من التكريم عليها، تستوجب تجنب إساءة استعمالها، أو سلبها، أو استغلالها، برغم كونها مسخرة لانتفاع الإنسان بها. ومقتضي الحساسية تجاه الطبيعة والرعاية الرقيقة لها كحديقة أو غابة أو نهر أو جبل، هو التعامل مع كل شيء فيها وفق الغاية التي خلقه الله لها.
الفاروقي في سطور:
إسماعيل راجي الفاروقي هو باحث ومفكر فلسطيني تخصص في الأديان المقارنة، من أوائل من نظروا لمشروع إسلامية المعرفة، وقد انتخب أول رئيس للمعهد العالمي للفكر الإسلامي، وقد استشهد برفقة زوجته لمياء الفاروقي ليلة 18 رمضان 1406 هـ الموافق 27 مايو عام 1986م بالولايات المتحدة الأمريكية طعنًا بالسكاكين.
الميلاد: 1 يناير 1921م، مركز يافا، تل ابيب – يافا، فلسطين.
الوفاة: 27 مايو 1986، Wyncote، بنسلفانيا، الولايات المتحدة.
التعليم: جامعة إنديانا بلومنجتون، جامعة مكغيل، جامعة تيمبل، جامعة هارفارد، الجامعة الأمريكية في بيروت.
المؤسسة التي تم إنشاؤها: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ أصول التربية المساعد – جامعة دمياط – مصر.