أعرف صِنفًا من الناس يعيش أحدهم حياته يحمل الحِراب والسِنان، ويتترس بالدروع والمغافر؛ فالحياة في تقديره معركة لا مكان فيها لعاجز ضعيف، ولا بقاء لجبان خوّار.
وتستبد هذه النظرة ببعضهم فيرى حياته عِراكًا لا هوادة في تفاصيلها كلها، صغيرها والكبير، جليلها والحقير؛ فالحصول على الشهادة معركة، والوظيفة معركة، والترقي فيها معركة، والزواج معركة، وتربية الأولاد معركة، وخوض الانتخابات معركة، والتقاعد معركة، وأكاد أقول وفراق الدنيا عندهم معركة!
ولستُ أشك أن هذه النظرة انعقدت في نفوس معتنقيها لكثرة ما صُبَّ في نفوسهم ونُشِّئوا عليه من مفاهيم مُعوَجّة شائهة، ترى الدنيا غابة يأكل القوي فيها الضعيف، ويلتهم الكبير فيها الصغير، فإما أن تكون ذئبًا أو تقضي نحبك ممزَّقّاً بين أنياب الذئاب، وسقى هذه النظرة أوضاعٌ اجتماعية مائلة، وأنظمة تعليمية جاهلة، ألقَتْ بجِرانها واستقرَّ بها النوى في بلادنا العربية منذ أمد بعيد.
وزاد الأمر عِلَّة قوم جمعوا الجهل المبعثر وجعلوه جهلًا منظمًا، وراحوا يقصون على الناس قصص الذين صرعوا الحياة بعدما صرعتهم، وقهروها بعدما قهرتهم، يستنهضون بأحاديثهم الغثة الباردة “العملاق الذي في داخل كل منا” وسمّوا كل هذا “تنمية بشرية”، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويأتون بالحق فيكذبون معه مائة كذبة، ونسوا –أو تناسوا- أن هذا العلم لقيط قد نشأ وترعرع في أحضان الغرب سقوه بلبان معتقداتهم، وصدر عن نظرتهم المادية العشواء، وفلسفتهم الذابلة عن الإنسان والكون والحياة جميعًا.
وليس من الإنصاف أن ننكر هذه النظرة جُملةً لا سيما وأسبابها قائمة وجيهة، ولكني أكثر اطمئنانًا إلى أن الدنيا ليست بهذا التوحُّش الرعيب، والطبيعة المخوفة التي يطلقها أولئك المقاتلون في غير معركة، والذين يحاربون طواحين الهواء.
ولكن ماذا لو أقنعنا هؤلاء أن يغيروا زاوية الرصد، وينظروا من كُوّةٍ غير تلك التي ألفوا الإشراف منها على الحياة؟!
فلو رأوا الحياة “اختبارًا” وليست “معركة”، “ابتلاءً” وليست “مشاجرة”، “مدارج” وليست “جولات” إذن لنعموا بشيء من سكينة النفس، وطمأنينة القلب، يعزُّ عليهم تحصيله وهم على سالف اعتقادهم المرتاب، وظنهم السيئ في الأيام.
ألن يكون هذا التغيّر كفيلاً بأن يقلب نظرتهم للحياة رأسًا على عقِب، فتعمر قلوبهم بالرجاء والاحتساب بديلًا عما فاضت به من الفَرَقِ والذُعر؟!
ونحن في دعوتنا تلك نلتئم مع النظرة القرآنية لرحلة الإنسان فوق هذه الأرض، فقد بيّنَتْ في جلاء غاية حياته، فغاية وجود الإنسان على هذه الأرض العبادة التي تَمرُّ على جسر الابتلاء: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك: 2)، وكل ما على الأرض مادة لهذا الاختبار: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف: 7)، وما يعتري الأمم والأفراد من عسر ويسر، وما يتقلبون فيه من البأساء والرخاء هو تنويع في مادة الاختبار القائم: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف: 168).
والشُّقة بعيدة والأمد واسع بين من يستقبل الحياة بنفسية المقاتل المحارب الذي يترقب الظفر إن حقَّق فيها مراده، ويألم للهزيمة إن فاتته حظوظه العجلى، ومن يستقبلها بروح الذي يترصّد مواضع التكريم والرفعة إن هو أحسن، ويحذر من الإبعاد والإهانة إن جانَبَه الصَّواب، إنه فرق بعيد في الوسائل والآثار، وفي المقدمات والنتائج.
فالصِّنف الرشيد من أصحاب النظرة القرآنية يرون في كل اختبار من اختبارات الدنيا –التي لا تنقطع من المهد للحد– فرصة للنمو والترقي، فكل عقبة اجتازها حميدًا وفق مُراد الله ترفعه إلى مقام الشُّكر، وكل شِدة أصابته فاستعان فيها بربه تسمو به إلى مقام الصبر، وكل شهوة تَصرعه فلا يصمد أمامها لضعفه البشري تستحق الإنابة والتوبة، فالشأن ليس شأن النصر والهزيمة، وإنما شأن التوفيق والخُذلان.
فالحرب تترك الإنسان وراءها كليمًا نازفًا، أو جريحًا مُثخنًا، والابتلاء يترك الإنسان شاكرًا أو صابرًا أو أوابًا نادمًا.
وهذه النظرة الموفَّقة وَقْفٌ على من اعتصم بالإيمان واستمسك بأهداب الحق والخُلُق في هذه الحياة، وحِجْر محجورٌ على من نَبَذَ دين الله وراءه ظهريًا، وهذا ما صدّقه حديث النبي الكريم ﷺ: “عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له”.
المؤمن يعتصر من كل ما يفجؤه من أحداث وخطوب، وما يعتريه من عطايا وبلايا، فُرصًا للإيداع في رصيد مكاسبه وأرباحه، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن.
وإن المرء ليقف مأخوذًا أمام أحد الذين فهموا الحياة على وجهها، وتعاطوا أسبابها كأحسن ما يكون التعاطي في مجالات شتى قلّ أن تجتمع لامرئ واحد في زمن واحد، ألا وهو الإمام ابن تيمية -رحمه الله- وهو يطلق مقولته الخالدة، وقانونه الواعي، الذي يقضي بين النظرتين في عدل وإنصاف: “ما يصنع أعدائي بي، أنا جنَّتي في قلبي، وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة”.
فهنيئًا لمثل هذا السعيد الذي طابت له حياته على أي حال، ودار مع مراد الله حيث دار، وعلم أن الظفر في الدنيا ليس في أن ينال ما يريد على أي وجه كان، بل أن ينال رضا الله على أي حال كان، فلا يراه الله حيث نهاه، ولا يفقده حيث أمره.