اعتاد العراقيون منذ أكثر من 15 عاما على مشاهدة الدعاية الانتخابية، التي ينظمها المرشحون والأحزاب، حيث تتجدد في كل موسم انتخابي وسائل وطرق لجذب الناخبين وإقناعهم بالمشاركة والتصويت لهم، مقابل امتيازات بسيطة لا تعدو أن تكون ذات طابع شخصي ومناطقي في أكثر الحالات.
وتنوعت تلك الأساليب الانتخابية التي يحذو إليها المرشحون، ما بين الخطاب الديني الذي برز بسنوات العنف الطائفي، وبين تبني المرشحين لحملات خدمية للمناطق التي يمثلونها ثم يختفون، أو يسعى البعض منهم إلى إقامة ولائم طعام كبيرة أو توزيع بعض الهدايا العينية البسيطة كأغطية النوم أو الملابس أو قدور للطبخ.
تجارب مريرة
بضحكة خفيفة يقول مصطفى عبيد، وهو مواطن من الناصرية، بأن لديه تجارب مريرة مع المرشحين، حيث تعهد أحدهم بتعديل الشارع الخاص بالمنطقة، وتجهيزها بمحولة كهربائية جيدة من أجل أن يصل التيار الكهربائي للمناطق البعيدة؛ لكن كان تعهده مجرد كلام، ولم نره بعد أن فاز بالانتخابات الماضية.
يضيف عبيد خلال حديثه للجزيرة نت، أن أحد المرشحين في الانتخابات الماضية قد زارهم، وأكد أنه سيقوم بتعيين الخريجين من العائلة، وتوفير احتياجات المنطقة أيضا من ماء وكهرباء وخدمات، وبعد أن فاز أغلق هواتفه كلها، وانتقل إلى محافظة أخرى.
وفي الناصرية أيضا، كما يقول عبيد قام أحد المرشحين قبل عدة سنوات بتوزيع قدور طبخ للمواكب الدينية، فيما قام آخر بتوزيع أغطية النوم وعباءات نسائية، كما قام مرشحون آخرون بتوزيع الأرصدة حتى يوم الانتخابات لكل من ينتخبهم.
لم يترك المرشحون في كل انتخابات طريقة إلا وضعوا أنفسهم فيها للترويج عن أنفسهم، بدون برامج انتخابية أو مشاريع تخص المواطنين، فتحول الأمر إلى ظاهرة، وهذا ما نجده في كل انتخابات، حيث تتحول الدواوين والمضايف إلى مناسبات باذخة في إقامة الولائم على شرف المرشح، كما يقول عبيد.
شراء صفحات
لكن هذه المرة واستعدادا للانتخابات المبكرة المقررة في 10 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، فقد بدأت حملات الدعاية بشكل مغاير بحسب ما رصده مدونون عراقيون فاعلون في مواقع التواصل الاجتماعي، إذ بدأت صفحات خاصة بتلك المواقع بتغيير أسمائها من صفحات للترفيه أو الإعلانات إلى صفحات تحمل أسماء مرشحين لشخصيات جديدة.
دعا ذلك الأمر بعض المدونين وبعض الصفحات الفاعلة إلى رصد تلك الظاهرة عبر إطلاق وسم (هاشتاغ) “شفتك سمير”، وهو وسم ساخر يهدف إلى تعريف المواطنين بمحتوى تلك الصفحات وكيف تحولت لتثير بذلك الرأي العام.
يكشف بحر جاسم المتحدث باسم صفحة “التقنية من أجل السلام” المعروفة في العراق، والتي تبنت كشف دعاية المرشحين والأحزاب عن الهدف من تبني هكذا حملات، مؤكدا أنها توعوية وليس هناك أي تسقيط سياسي أو مهاجمة لأي من السياسيين أو المرشحين؛ بل إبراز الحقائق، فمثلا صفحة تخص المشاوي أو الأحجار الكريمة تتحول لصفحة محبي وأنصار المرشح (الفلاني)، وهو جزء من الشفافية التي نعمل عليها حتى نظهرها للناس، على حد قوله.
يضيف بحر خلال حديثه للجزيرة نت “إننا لا نهدف إلى إظهار الصفحات على إنها صفحات تابعة لمرشح ما أو ندعو المتابعين لمتابعتها أوعدم متابعتها، باختصار إننا نخبر المتابعين أن هذه الصفحة على فيسبوك أو أي موقع آخر قد تم تغيير اسمها، وهو جزء من حملة التوعية وما يدور في مواقع التواصل”.
ثقافة اجتماعية
يرى الباحث الاجتماعي والأكاديمي، الدكتور عدي الشبيب، أن العملية الديمقراطية في العراق تمت من بناءات فوقية أو غير ثقافية، وهو فقط ما يتعلق بالطبقة السياسية، والتي هي أصلا لم تأتِ بعملية ديمقراطية، حيث جاءت من فوق؛ أي من قمة الهرم، وليس من ممارسة اجتماعية.
يضيف الشبيب خلال حديثه للجزيرة نت، أن الديمقراطية اليوم هي شيء شكلي يمارس في المجتمع العراقي، ولهذا يعتبرون قضايا المغانم والولائم هي الأهم؛ لأنها مغروسة في ثقافتهم الاجتماعية أكثر من مفهوم الديمقراطية ونتائجها أو تمثيل الناس في البرلمان، وبالتالي تجدهم زاهدين ومتمسكين بقضايا الولائم والعزائم التي تقام.
يعتبر الأغلبية الكبيرة من الناس -كما يقول الشبيب- أن الديمقراطية فاشلة في العراق، وأنها لا يمكن أن تدافع عنه مثلما تدافع عنه العشيرة أو الجماعة التي ينتمي إليها، كما أن النزاعات العشائرية التي تحصل دليل على أن العشيرة هي التي تأخذ دورها، لا الحكومة أو الدولة التي لديها آليات ديمقراطية يمكن من خلالها أن تتم عملية الضبط الاجتماعي.
ويؤكد المدون والناشط علي سالم خلال حديثه للجزيرة نت أن الدعاية الانتخابية بهذا الشكل هي آخر صور الفشل، الذي مني به مرشحو الأحزاب، كونهم غير قادرين اليوم على النزول إلى الشارع وإقناع ناخبيهم بما حققوه طيلة السنوات الماضية.
هذا الأسلوب من الترويج -كما يقول سالم- قد أكل الدهر عليه وشرب، وأصبح من النوادر المضحكة لدى الجمهور يتداولونها في مجالسهم، لقد شاهدنا حالات طرد مرشحين وتعليق لافتات رافضة لدخول مناطق معينة، ناهيك عما يكتب على شبكات التواصل الاجتماعي.
لكن بجميع الاحتمالات، بحسب سالم، فإن الوعي يساهم كثيرا في الوقوف أمام تلك الدعاية الانتخابية، التي يتفنن بها أصحابها بدون الانتباه للنتائج على المدى القريب والبعيد، صحيح أن هناك طبقات بسيطة تنطلي عليهم الشعارات، وينساقون للحملات الانتخابية التي توفر لهم بعض الامتيازات مثل الأكل أو الملبس؛ لكن هناك بالمقابل رفض مجتمعي، وتحول لافت للنظر تجاه الانتخابات سيما بعد الاحتجاجات.
ابتكارات جديدة
نشاهد ابتكارات جديدة بالتسويق الانتخابي، بحسب تعليق الإعلامية والمدونة أزل السياب على حيدر العبادي، زعيم ائتلاف النصر ورئيس الوزراء السابق، حينما ظهر في تجمع انتخابي وهو يحمل سيفا، مؤكدة أنها ضد فكرة استخدام القوة غير القانونية. وتضيف السياب خلال حديثها للجزيرة نت أن بناء دولة قوية يكون بتطبيق القانون والدستور، وغير هذا الكلام مجرد كذب.
وفي أول بوادر رفض الدعايات الانتخابية المبكرة، شهدت محافظة بابل (جنوب بغداد) فوضى واعتداء على تجمع انتخابي قبل أسابيع، بعد أن اقتحمه عدد من المتظاهرين، وقاموا بالتخريب والاشتباك مع منظميه بالكراسي؛ مما أدى إلى هروب الجمهور.
ويخشى عدد كبير من الأحزاب حدوث مشاكل خلال الانتخابات المقبلة؛ بسبب مخاوفهم من عدم وجود بيئة آمنة لإطلاق الدعاية الانتخابية، وما يقوم به بعض المرشحين يكاد يكون مجرد تجمعات بسيطة وفي أماكن مغلقة، عكس ما كان يحصل سابقا من تجمعات في أماكن مفتوحة بحضور آلاف من المواطنين.