تناولنا في الحلقات السابقة:
إخلاص النية لله في زواجي
هل المودة والرحمة هبة أم توفيق من الله؟
مفاهيم زوجية.. القوامة
ونتناول في هذه الحلقة: “..هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ..”.
من المفاهيم الأساسية في ضبط سلوكيات الزوجين، المعاني العظيمة التي يمكن فهمها من قول الله عز وجل {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (النساء: 187). يقول الشيخ الشعراوي في تفسير هذه الآية العظيمة إن للباس ثلاثة وظائف أساسية هي الستر والحماية والجمال، وسنتناول أثر كل منها على سلوك الزوجين:
الستر:
من المهام الأساسية للزوج ستر زوجه، والستر له عدة معان بين الزوجين:
إن الإفضاء بين الزوجين والارتواء بينهما يقوي النفس بعد اتباع الضوابط الشرعية على غواية الشيطان، فيكون كل زوج في ستر وكنف زوجه.
ستر كل ما يدور بين الزوجين من تصرفات أو خلافات؛ فخصوصية العلاقة الزوجية تقتضي بل تحتم على كلا الزوجين ستر زوجه، فمن واقع ما يعرض علينا من مشكلات أستطيع أن أؤكد أنه قد يحدث خلاف بسيط، ولكن تسريب أحد الزوجين لذلك الخلاف للخارج عادة ما يؤدي إلى تعقيد الأمور.
ستر العلاقة الحميمية:
فعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعودا عنده فقال: “لعل رجلاً يقول ما يفعله بأهله، ولعل امرأة تخبر ما فعلت مع زوجها، فأرَمَّ القوم (يعني سكتوا ولم يجيبوا) فقلت: إي والله يا رسول الله، إنهن ليقلن وإنهم ليفعلون”. قال: “فلا تفعلوا فإنما مثل ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون”، وهنا يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم كلا الزوجين من إفشاء العلاقة الحميمية، وفي هذا حفاظ على أمانة هذه العلاقة المقدسة وأن تكون بمنأى عن أعين الناس. كما أنها علاقة خاصة جدا وحتى لا يدخل الشيطان للنفس من جانب المقارنة (زوج فلانه أكثر إمتاعا لزوجته من زوجي)، نعوذ بالله أو (يتطلع الصاحب لزوجة صاحبه بعد ما حكى له ما دار بينه وبين وزوجته).
كما أنه من الناحية الشرعية لا يحق لأحد الزوجين أن يهتك ستر زوجه حتى أمام المصلحين، نعم عليه أن يوضح أسباب الخلاف، ولكن الحذر من التعرض للموضوعات خارج نطاق دائرة الخلاف، وحتى وهو يتناول موضوع الخلاف يتناوله بألفاظ ساترة.
كما أنه واجب على كلا الزوجين أن يكون عينا لزوجه، فيستره:
من الناحية المادية: على سبيل المثال إذا كان زي الزوج غير مناسب من الناحية الشرعية أو الاجتماعية، فعلى زوجه تنبيه لذلك.
من الناحية المعنوية: على سبيل المثال قد يكون الزوج يتعمد المبالغة في الحديث أو السؤال عما لا يخصه أو التدخل فيما لا يعنيه، مما قد ينتقص من قيمته، فعلى زوجه تنبيهه إلى ذلك دون خدش حيائه أو الانتقاص منه.
الزوجة التي تعلم أن زوجها ضعيف أمام النساء ويصعب عليه غض البصر عليها أن تأخذ بأسباب حمايته وتجنبه ذلك
كما أن ستر الزوج لا يتضمن فقط ستره من أعين الآخرين، بل ستره من نفسه، بمعنى أنه قد يطلع الزوج على نقص مادي أو معنوي في زوجه، ولكن زوجه قد يجهل أن به هذا النقص أو يعلمه ولكنه يتجاهل هذا النقص، فيجب ستره من نفسه! هذا لا يتعارض مع الشفافية التي سنتناولها إن شاء الله في حلقة مستقلة، ولكن يجب على الزوج أن يعالج هذا النقص في زوجه دون أن يهتك ستره أمام نفسه أو يجرح حياءه.
الحماية:
على كل من الزوجين حماية الآخر، وطبعا الحماية المادية للزوجة حقا على الزوج، قال الرسول صلى الله عليه وسلم “..ومنْ قُتِل دُونَ أهْلِهِ فهُو شهيدٌ”، ولكن وهو المهم الحماية المعنوية. للأسف قد يفهم بعض الأزواج البر بالأهل خطأ، فتكون زوجته مباحة لأمه أو إخوته الإناث! ولا يرد عنها غيبتهم لها حفاظا على بره لهن! وهذا ظلم لنفسه وأهله قبل أن يكون تخلي عن واجب الحماية لزوجته.
كما يجب على الزوج حماية زوجه من نفسه، فإن علم أن به ضعفا ما، فعليه حمايته من ضعفه؛ فالزوجة التي تعلم أن زوجها ضعيف أمام النساء ويصعب عليه غض البصر، عليها أن تأخذ بأسباب حماية زوجها من هذا الضعف وتجنبه ذلك. كما أن الزوج الذي يعلم ضعف زوجته أمام التسوق عليه أن يجنبها ذلك. كما أنه إذا علم الزوج أن زوجه إذا غضب فقد قدرته على ضبط تصرفاته وأُغلق عقله، فعليه تجنب غضبه وحمايته من هذه الآفة.
من القصص الرائعة التي تتضمن التطبيق العملي لذلك: أن زوجة كانت جميلة وتعتز بإطراء زوجها لها، وإشادته بحسنها، ولكنها لاحظت أن معدل تساقط شعرها زاد، ورغم أنها ما زالت في منتصف العقد الرابع من عمرها إلا أن بعض التجاعيد بدأت تزحف على وجهها. ذهبت مع زوجها للطبيب الذي طلب منها بعض التحليلات، واتصل الطبيب بالزوج ليخبره أن نتائج التحليلات تبين أن زوجته مصابة بفيروس نادر لا علاج له، ومن أعراضه شيخوخة مبكرة. خاف الزوج على زوجته من الصدمة، واستسمحه ألا يخبرها وأن يطمئنها وعليها أن تستخدم بعض الكريمات. بعد يومين عاد الزوج إلى بيته وهو معصوب العينين، وأخبر زوجته وهو يهون عليها أمر إصابته، بأنه أثناء متابعته للعمال في مصنعه ارتطم بإحدى الآلات في جبهته، وتم نقله إلى المستشفى، ولكن تبين إصابة أدت إلى فقد بصره. عاشت الزوجة عدة أشهر مع زوجها الضرير الذي دوام على إطرائه والتغني بجمالها، وهي في قمة السعادة رغم أن مظاهر الشيخوخة تزحف على جمالها، إلى أن وافتها المنية. فوجئ الناس بالزوج الضرير مبصراً! وهو يجهز دفن زوجته باكياً! فأجاب: “عندما علمت بمرض زوجتي، أدركت حجم الآلام النفسية التي سوف تعانيها ليس فقط بسبب المرض ولكن بسبب ما سوف تراه في عيني من شفقة وحزن، وهي العين التي كانت ترى فيها جمالها. لقد كنت خائفا عليها من هول الصدمة، فآثرت أن أعيش معها ضريرا موهما إياها بأنني ما زلت أراها بجمالها، حتى أحميها من نفسها”.
الحرص على أن أبدو جميلاً في عين زوجي لا يرتبط بسنوات الزواج الأولى لكنه قيمة في الحياة الزوجية
الجمال:
يجب أن يحرص الزوج أن يكون في أجمل وأبهى صورة في عين زوجه. وهنا أوجه حديثي خاصة للأزواج، فكم أعجب من زوج كرشه ممتد أمامه، ويصف زوجته بأنها لم تعد رشيقة بعد أن ولدت له عدة أولاد وأرضعتهم وخدمته هو وهم، يقول الله عز وجل {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 288)، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنه “إني لأتزين لزوجتي كما أحب أن تتزين لي”. وفي المقابل هذه الأخت المحجبة التي قد تذهب إلى عملها وهي معتنية بزينتها، ولكن لا تعطي نفس القدر من العناية بمظهرها بالمنزل، حتى وهي بالمطبخ أو وهي تنظف المنزل يجب أن تحرص على أن تبدو جميلة أمام زوجها.
الجمال لا يعني التكلف أو المبالغة سواء في تكلفة الجمال أو مستوى التجمل، ولكنه قيمة يجب أن يحرص عليها الزوجان؛ فالحرص على أن أبدو جميلا في عين زوجي، لا يرتبط بسنوات الزواج الأولى، لكنه قيمة في الحياة الزوجية، بل يجب على الزوجين الحرص على هذه القيمة دون مبالغة.
إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان أسبق الناس للتزين لزوجاته، وقال صلى الله عليه وسلم: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي” رواه الترمذي، وقال ﷺ: “استوصوا بالنساء خيرا” رواه الشيخان ومن الخيرية بالزوجة التجمل لها. وكان أول ما يفعله عند دخوله البيت استخدام السواك. كما أقر ﷺ سليمان الفارسي على وصيته لأبي الدرداء رضي الله عنهما وقد تضمنت وصيته “.. وإنَّ لأهلِكَ عليكَ حقًّا، فأَعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه..” زواه الترمذي. كما أنه نهى عن أكل ما فيه رائحة مكروهة. ويروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، عندما دخل على رجل أشعث أغبر ومعه زوجته تقول: يا أمير المؤمنين لا أريد هذا الرجل، أمره عمر بالاستحمام وتهذيب شعره وتقليم أظفاره، ففعل الزوج، فلما رأته الزوجة رجعت عن طلبها فقال سيدنا عمر: “هكذا فاصنعوا لهن، فوالله إنهن ليحببن أن تتزينوا لهن كما تحبون أن يتزين لكم”.
إن نظافة الزوج وتزينه لزوجته من المعاشرة بالمعروف التي أمر بها المولى عز وجل الرجال للنساء، وقد قال الفقهاء إن الزوجة لو امتنعت عن الجماع لوجود شيء يضرها وتأذت به تأذياً لا يحتمل لم تعد ناشزا، وواجب الزوج أن يعالج نفسه إن كان به مرض، أو يعتني بنفسه إن كان سببه الإهمال، فكما من حق الزوج على زوجته النظافة والتجمل، أيضأ من حق الزوجة على زوجها النظافة والتجمل.
كما أنني أستطيع أن أؤكد من واقع تحليلنا لما يعرض علينا من طلب استشارات: أن أحد الأسباب الرئيسة للمشاكل الزوجية هو عدم الإشباع العاطفي والحميمي، الذي من أهم أسبابها عدم الاهتمام بالنظافة والصحة الذاتية والعناية بالتجمل والزينة الشخصية.
كم أشفقت على إحدى الأخوات وهي تروي “مأساة الليل” كما سمتها، فزوجها لا يعتني بنظافته حتى الغسل الشرعي يكتفي بإسالة الماء، وحتى عندما تصر بعد عودته من عمله أن يغير ملابسه الداخلية، فسرعان بعد دقائق ما تزكم أنفها. مآسٍ للأسف كثيرة تتعلق بالنظافة الشخصية خاصة ما يتعلق بالبخر الذي كان سببا في نفور أحد الأزواج والطلاق.
القرب:
كما يتميز اللباس بالقرب، نعم الزوجان هم الأقرب لبعضهما، فرغم قدسية علاقة الوالدين، إلا أن بعد الزواج يكون الزوج بالمعايشة هو الأقرب، دون الإخلال بالحرص على بر الوالدين طاعة وقربى لله. إن طبيعة العلاقات الزوجية بما تتضمنه من عاطفة وحميمية تجعل من هذا الرباط الذي سماه المولى عز وجل “ميثاقا غليظا” قدسية وخصوصية في القرب بين الزوجين.
____________________________
(*) استشاري علاقات زوجية وتربوية.
(يمكن التواصل من خلال: 0014169973277 واتس وفايبر وإيمو، y3thman1@hotmail.com).