لم أندهش كثيراً حين قرأت أن قوى عالمية تدخلت لمنع تولي الراحل الكبير د. عبدالرزاق السنهوري (1895 – 1971م) رئاسة الوزراء في مصر، في الوقت الحرج لانتقالها من الملكية للجمهورية، فيما يبدو أنهم كانوا يعرفونه عن قرب، ويعرفون عنه الكثير مما تحويه شخصيته الفذة المليئة بالقوة والتحدي، وأيضاً -وهو الأهم هنا- العصية على التطويع والرضوخ؛ وهو ما يتقاطع تاريخياً مع حدثين بالغَي الأهمية في تاريخ السنهوري باشا نفسه، وفي تاريخ الأمة كلها وفي السنة نفسها (1924م).
وهي السنة التي أُعلن فيها إلغاء الخلافة الإسلامية، وقطع روابط الأمة بحبلها المتين، وتفكيكها إلى دول وإمارات جغرافية وعرقية، فهي نفس السنة التي كان العالم كله فيها يستهل تاريخاً جديداً لا يوجد فيه شيء اسمه “الخلافة الإسلامية” التي كان إلغاؤها وإنهاء وجودها أحد أهم أسباب افتعال وإشعال الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918م).
فقه الخلافة
في السنة نفسها أيضاً كان طالب الدكتوراه المبعوث من بلاده (مصر) إلى جامعة ليون الفرنسية (عبدالرزاق السنهوري) يستهل تاريخ حياته العملية والعلمية باختيار موضوع رسالته للدكتوراه عن “الخلافة” عام 1924م! الرسالة التي أشرف عليها الأستاذ الفرنسي “إدوارد لامبير” الذي كان للأمانة قد نصحه بالابتعاد عن هذا الموضوع لـ”حساسيته” في العقلية الأوروبية، خاصة بعد الانتصار الذي تحقق في الحرب العالمية الأولى عام 1918م، وأدى إلى الإطاحة بالخلافة العثمانية وتوزيع ممتلكاتها على دول الحلفاء المنتصرين وفي مقدمتهم فرنسا، كما أنه أصلاً كان قد انتهى من رسالته المبعوث لها من بلاده “القيود التعاقدية على حرية العمل في القضاء الإنجليزي”.
إلا أن السنهوري ولثقته الكاملة في مبادئ الإسلام في مجال النظم القانونية والسياسية والاجتماعية، أصر على أن يكون هذا الموضوع موضوعه الثاني للدكتوراه الثانية “فقه الخلافة وتطورها لتصبح هيئة أمم شرقية”، كان السنهوري، رحمه الله تعالى، يؤمن إيماناً قاطعاً بضرورة إعادة الخلافة في صورة منظمة دولية في المستقبل (تحمل راية الإسلام وتخلد مبادئه ونظمه، وتحمي وحدة أمته ومستقبلها، وتمكنها من القيام بدورها في المشاركة في مستقبل العالم كأمه عظيمة خالدة موحدة)، كما قال، ولعل المفكر القومي المعروف ميشيل عفلق (1910 – 1989م) التقط منه شعار حزب البعث المشهور “أمة واحدة ذات رسالة خالدة”، وليس عيباً ما فعل؛ فقيمة الأمور وخطورة وأهمية وعظمة بعض اللحظات التاريخية أحياناً ما تتجاوز الأشخاص الذين تفنى سيرتهم في أمتهم، كما تكون سيرة أمتهم قطعة من ذات أنفسهم وتاريخ سيرتهم.
الرسالة نُشرت في كتاب عام 1926م، وفي مقدمته يشير السنهوري إلى إلغاء الخلافة الإسلامية عام 1924م بقوله: إنها المرة الثانية التي يجد العالم الإسلامي نفسه دون خلافة؛ المرة الأولى كانت بعد هجوم التتار على الخلافة العباسية في بغداد 1258م.
ويتحدث عن الفكرة البحثية له فيقول: إن موضوع بحثه ليس الإسلام كدين وعقيدة، إنما ينصب على “الشريعة” باعتبارها علماً وثقافة قانونية مليئة بالنظريات التي تثري الفقه القانوني في العالم كله؛ ويقول: فأنا كمسلم ملتزم بإخلاص شديد واحترام عميق للدين الإسلامي.
إثراء الشريعة للفقه القانوني في العالم كله أشار إليه الأستاذ الفرنسي المشرف على الرسالة قائلاً: “دراسة السنهوري قدمت لمعهد القانون المقارن كتاباً يفخر به في مجال الدراسات المقارنة، كما قدمت لعلم القانون المقارن والبحوث القانونية بصفة عامة أكبر خدمة علمية بإبراز مبادئ الشريعة الإسلامية الأصيلة فيما يتعلق بنظام الدولة وأصول الحكم على حقيقتها التي يجهلها العلماء الأوروبيون، أو يتجاهلونها نتيجة المحاذير السياسية ورواسب التعصب المنتسبة إلى المسيحية، وهي في حقيقتها مظهر من مظاهر الأطماع الاستعمارية”، هكذا قال الرجل الأوروبي المشرف على الرسالة.
سيادة الأمة
كما يشير السنهوري باشا إلى أن مبدأ “الفصل بين السلطات” هو أساس نظام الحكم الإسلامي، خاصة ما يتعلق بالسلطة التشريعية التي يجب أن تكون مستقلة استقلالاً تاماً عن الخليفة، مؤكداً وقاطعاً بأن “إجماع الأمة” هو مصدر التشريع الإسلامي، وأن الأمة هي التي تعبر عن الإرادة الإلهية بــ”إجماعها”، وليس الخليفة أو الحاكم بسلطته.
سيادة الأمة ستؤدي بالضرورة إلى سيادة السلطة التشريعية التي يجب ألا يملكها فرد مهما تكن مكانته؛ خليفة كان أم أميراً أم ملكاً أم حاكماً، فهي لله تعالى، وهو سبحانه فوضها للأمة في مجموعها، التي يجب أن يرتبط بها “الإجماع” في شكله الصحيح.
هذا الكلام العلمي الدقيق الذي أشرف على إنتاجه عالم فرنسي كبير وصف د. السنهوري بأنه “عالم مسلم ناشئ فذ”؛ بل وأكد أهمية وفائدة الكتاب لكل العرب والمسلمين؛ لأنه سيوضح الفرق بين المبادئ الإسلامية التي تقوم عليها نظرية الخلافة ونظام الحكم، والممارسات التاريخية التي ابتعدت عن تلك المبادئ في بعض الأوقات.
وفوق ذلك، يستخلص من الأصول النظرية والتجارب التاريخية والواقع العصري للعالم الإسلامي خطة جديدة لإعادة بناء الخلافة في المستقبل، في صورة “منظمة دولية شرقية إسلامية”، كما قال الأستاذ المشرف على الرسالة.
دعونا نتذكر في الذكرى الـ98 لإلغاء الخلافة ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي (1868 – 1932م) في تلك اللحظات التاريخية العصيبة التي صاحبت إلغاء الخلافة وتعرية دار الأمة من سقفها الحضاري والتاريخي؛ حيث قال قصيدته الشهيرة “الأستانة تُعزل وأنقرة تُكلل” التي سكب فيها كل ما في وجدانه من حزن وأسى على هذا الوجع الكبير شعراً وفكراً، وقال فيها:
عادت أغاني العرس رجع نواح ونعيت بين معالم الأفراح
كفنت في ليل الزفاف بثوبه ودفنت عند تبلج الإصباح
شيعت من هلع بعبرة ضاحك في كل ناحية وسكرة صاح
ضجت عليك مآذن ومنابر وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهة ومصر حزينة تبكي عليك بمدمع سحاح
والشام تسأل والعراق وفارس أمحا من الأرض الخلافة ماح