أصدرت محكمة صهيونية، في 22 مايو الجاري، قراراً يجيز لليهود والمستوطنين أداء صلواتهم في باحات الأقصى “جهراً”، وذلك بعد حكم سابق لنفس المحكمة، في أكتوبر 2021، بالسماح لليهود بالصلاة في باحات المسجد الأقصى “في صمت”.
الحكم الجديد الذي يسمح للمستوطنين بأداء صلواتهم التلمودية بـ”صوت عالٍ” والقيام بما يشبه الركوع على أرض المسجد الأقصى (يصيحون باللغة العبرية “شيماع يسرائيل” وتعني اسمع يا “إسرائيل”)، ليس سوى خطة صهيونية يدعمها رئيس الحكومة اليميني المتطرف نفتالي بينت، عمادها التغيير التدريجي للوضع في الأقصى وفرض التقسيم المكاني (تحديد مكان بالأقصى لصلاة اليهود) بعد الزماني (معمول به حالياً وهو تخصيص أوقات صباحية ومسائية لاقتحام الأقصى والصلاة فيه).
واستئناف حكومة بينت حكم المحكمة وزعمها أن الحكم لن يغير سياسة “الوضع الرهن” المقررة من جانب موشي ديان عقب احتلاله القدس 1967، ليس سوى ذر للرماد في العيون وتخدير المطبعين العرب وتلافي غضب الرئيس الأمريكي قبل زيارته للكيان الصهيوني الشهر المقبل.
فقد ألغت محكمة الاستئناف الصهيونية، في 25 مايو الجاري، حكماً أصدرته المحكمة الجزئية بالسماح لليهود المستوطنين بأداء صلواتهم التلمودية بـ”صوت عالٍ” في المسجد الأقصى، لكنها أبت الحكم السابق بالسماح لهم بالصلاة داخل ساحة الأقصى “بصوت منخفض”، برغم أن “الوضع الراهن” المتفق عليه مع الأردن المشرفة على الأقصى منذ عام 1967 هو السماح لليهود بالزيارة فقط دون الصلاة نهائيا!
وكان 3 شبان يهود قد طعنوا على قرار الشرطة منعهم من دخول البلدة القديمة لمدة 15 يوماً، بسبب أدائهم طقوساً يهودية في باحات المسجد الأقصى، وقضت محكمة الصلح الصهيونية، في 22 مايو الجاري، بأن أداء التراتيل اليهودية وسجود المستوطنين في باحات الأقصى “لا يعرض السلم العام للخطر”.
ومنحت المحكمة برئاسة القاضي تسيون سهراي، في أكتوبر 2021، بذلك ضوءاً أخضر لليهود لأداء صلوات وطقوس تلمودية في المسجد الأقصى الأمر الذي يخالف تفاهمات “الوضع القائم” في القدس المتعارف عليها منذ العام 1852.
ثم تراجعت القاضية آينات أفمان مولر، في حكم الاستئناف اللاحق، في 25 مايو 2022، الذي ألغى الصلاة الجهرية لليهود بالمسجد الأقصى أن الحق في حرية العبادة اليهودية هناك “ليس مطلقاً لحساسية الوضع ويجب أن تحل محله المصالح الأخرى ومنها الحفاظ على النظام العام”، لكنها لم تمنعهم من الصلاة السرية ما يعد خطوة متقدمة لتحقيق خطتهم في التقسيم المكاني للأقصى بعد التقسيم الزماني.
خطة فرض الأمر الواقع
في يوم 18 يوليو 2021، وبالتزامن مع اقتحام 1700 مستوطن للحرم القدسي في ذكري “خراب الهيكل”، بدأ بينيت خطته لتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى بإصدار بيان يؤيد صلاة اليهود “الصامتة” داخل الحرم.
منذ احتلال القدس عام 1967 هناك “وضع قائم” يسمح لليهود بدخول ساحة الأقصى للزيارة فقط دون أي صلاة، وكانت شرطة الاحتلال تقوم بإخراج الزوار اليهود من مجمع الحرم القدسي لو قاموا بالصلاة، لذا جاء تأكيد بينيت –لأول مرة –على حق اليهود في “العبادة” هناك خلال الزيارة، بمثابة تغيير كبير في المعادلة.
في هذا اليوم سمحت الشرطة –لأول مرة– للمستوطنين بالصلاة داخل الحرم القدسي وليس الزيارة فقط، بعد حكم محكمة الاحتلال بالسماح لهم، وشكرهم بينيت على “الحفاظ على حرية العبادة لليهود في الحرم القدسي”، بحسب بيان لمكتب بينيت.
وعقب ثورة العالم الإسلامي وتهديد المقاومة الفلسطينية وحزب القائمة الموحدة الإسلامية المشارك في ائتلافه بالانسحاب، تراجع بينيت ضمنياً لا فعلياً.
لم يُصدر بياناً رسمياً بالتراجع، واقتصر الأمر على قول مصدر بمكتبه لـ”إذاعة الجيش الصهيوني”: إن بينيت كان يقصد أن يقول: إن لليهود حقوق الزيارة، وليس العبادة؛ أي من حقهم اقتحام الأقصى بحماية الشرطة للزيارة لكن دون العبادة داخله.
مع هذا، ومنذ هذا الواقع وحتى الآن بدأت شرطة الاحتلال تسمح لليهود بالصلاة داخل الحرم القدسي “صمتاً” بدون أصوات، رغم أن بينيت نفى وجود تغيير في سياسة ديان (الوضع الراهن) وساهم في تكريس ذلك.
هذه المرة تكررت نفس الواقعة ولكن بقرار من المحكمة بالصلاة “جهراً” كأنها تثبت حق المستوطنين في الصلاة “صمتاً”! وهو ما قاله بينيت: إن حكومته ستطعن عليه، وهو نفس ما فعله في المرة الأولى وتراجعت المحكمة، لكن تم تثبيت حق اليهود في الصلاة “صمتاً” بتعليمات سرية لشرطة الاحتلال بعدم إخراجهم من المسجد لو قاموا بالصلاة كما كانوا يفعلون سابقاً.
وهذا يعني دخول “تقسيم الصلاة مكانياً” بالأقصى حيز التنفيذ، بعد التقسيم الزماني الذي يحدث فعلياً حالياً.
ويُقصد بـ”التقسيم الزماني” تحديد الاحتلال أوقات معينة في المسجد الأقصى تكون مخصصة لدخول اليهود فقط، وأوقات أخرى للمسلمين.
حيث يُجبر الاحتلال المسلمين على مغادرة الأقصى في الفترة ما بين الساعة 07:30 حتى 11:00 صباحاً ومن بعد صلاة العصر حتى قبل صلاة المغرب، لتخصيص هذا الوقت لليهود، ويسمح بعدها بدخول المسلمين.
أما “التقسيم المكاني”، فيقصد به: الاستيلاء تدريجياً على أجزاء من الحرم القدسي وعدد من مصليات المسجد لتحويلها لكنس يهودية لأداء صلواتهم بها، وهو ما يجري في هذه المرحلة تدريجياً بتثبيت دخولهم وصلاتهم علناً في أي مكان بباحة الأقصى كي يقبل المسلمون في مرحلة لاحقة أو يفرض الاحتلال منطقة داخل المسجد يصلي فيها اليهود علناً.
هذا يعني أن قرار المحكمة الصهيونية السماح بأداء الصلوات التلمودية في الأقصى تهيئة لتطبيق مخطط التقاسم المكاني بعد الزماني وفي المسجد ونسف “الوضع القائم” الذي مارس الأردن بموجبه صلاحيات وسلطة شاملة حصرياً عبر دائرة الأوقاف الأردنية في إدارة شؤون المسجد الأقصى، وتنظيم خروج ودخول المصلين المسلمين وزيارات غير المسلمين.
أما بقية خطة بينيت وفق صحف وتقارير صهيونية فتقوم على السعي للتحالف مع القوى الدينية اليهودية المتطرفة لتنفيذ هذا المخطط ولو انهارت حكومته بحيث يسعى للعودة بحكومة أقوى يدعمها كل متطرفي الدولة العبرية تحت شعار انتزاع حق اليهود في الصلاة بالأقصى.
وتنص تفاهمات بين الجانبين الأردني والصهيوني بوساطة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، جون كيري، في العام 2015، على أنه بموجب “الوضع القائم” في القدس، يسمح للمسلمين فقط بالصلاة في الأقصى، فيما يمكن لغير المسلمين (اليهود) زيارة المكان دون الصلاة فيه (اقتحامه).
ويقول المحلل السياسي الفلسطيني د. صالح النعامي: إن قرار المحكمة الصهيونية السماح بأداء الصلوات التلمودية في الأقصى تمهيد لتطبيق مخطط التقاسم الزماني والمكاني في المسجد.
وأضاف أن القرار “ينسف اتفاق ملك الأردن ونتنياهو في 2015، الذي التزمت “إسرائيل” فيه بمنع أداء هذه الصلوات، وعلى أساس هذا الاتفاق أعاد الملك السفير إلى تل أبيب في حينه”.
وتابع أن “حكومة الأردن تشجع الصهاينة على المس بالأقصى والتفريط بالوصاية عليه من خلال تواصل التعاون الأمني والإستراتيجي وبناء الشراكات الاقتصادية والانغماس في مسار التطبيع معها مثل مشروع “الكهرباء مقابل الماء”.
وعقب احتجاج الأردن على حكم المحكمة الثاني بالسماح لليهود بالصلاة جهرا في الأقصى، أصدرت حكومة الاحتلال، بياناً مقتضباً جاء فيه: إنه “لا يوجد تغيير في الوضع القائم في جبل الهيكل (في إشارة إلى الأقصى) ولا خطط للقيام بذلك”.
لكن ما حدث فعلياً هو فرض الصلاة اليهودية داخل الأقصى تدريجياً تارة بالسماح بها صمتاً ثم جهراً، ثم التراجع عن الجهر والإبقاء عليها صمتاً رغم أنها ممنوعة أصلاً؛ ما يشكل تحركاً متتابعاً لفرض الأمر الواقع على المسلمين وتقسيم المسجد الأقصى كما فعلوا في المسجد الإبراهيمي الذي تمت فيه نفس الخطوات، والآن يتم منع المسلمين من دخوله في أوقات الصلوات والاحتفالات الصهيونية ومنع الأذان.
ولا يهدف هذا المُقترَح إلى نزع السيادة الإسلامية عن المسجد الأقصى فقط؛ بل إلى نزع كامل صلاحيات دائرة الأوقاف الإسلامية في كامل مساحة المسجد الأقصى، من قبل الاحتلال الذي سيحدد نظماً وقوانين ولوائح يراها مناسبة حسب الشريعة والمواسم اليهودية، ليصبح المسجد الأقصى تابعاً لوزارة “الأديان” الصهيونية ضمن المواقع المقدّسة اليهودية وتحت صلاحيات هذه الوزارة وضمن حدود قوانين الأماكن المقدّسة اليهودية.