ما أحوج المسلم إلى محطات يتزود منها بزاد المسير إلى رب العالمين؛ فهو بحاجة إلى الخلوة بربه والأنس به من وحشة الطريق، والركون إلى جنابه من زحمة المسالك والدروب، وتأتي الليالي العشر الأول من ذي الحجة لتكون محطة ربانية لهذا الزاد.
فما أحلى العيش في معية الله، والتنسم من عبير رحماته التي يتفضل بها على عباده؛ فتتوالى النفحات من السماء إلى الأرض تترا، كلما أوشكت نفحة على الوداع تلتها أختها، حتى لا يكون لمريد حجة في التقصير؛ فمن فاتته نفحة رمضان فهاهي نفحة ذي الحجة على الأبواب، ومن ذاق حلاوة الرحمة في رمضان فعليه أن يشمر عن ساعد الجد والاستعداد للتزود مما ذاق حلاوته وعرف حقيقته.
فيا من غفلت عما فات تأهب لما هو آت، ويا من يتلمس طريق الهداية استعد لخطوة البداية، ويا تائها في غيه بعيدا عن ربه مستأنسا بذنبه.. ألا لبعدك من نهاية؟
ما أعظمك ربي وما أحلمك وما أرأفك وما أوسع رحمتك؛ تفتح الباب تلو الباب، وتنزل الرحمة تلو الرحمة، ونحن غافلون وفي غينا سادرون، ولكن رحمتك تسعنا وعفوك يضمنا ونفحاتك تنالنا.
فضل عميم
أي فضل وأي تكريم لهذه الأيام أعظم من قسم الله عز وجل بها في كتابه الكريم {وَلَيَالٍ عَشْرٍ}؛ فالقسم من العلي الأعلى يفيد عظم المقسم به، ويلفت الأنظار إلى الاحتفاء به، ينبئك عن هذا الفضل والرفعة الطاهر بن عاشور في تحريره وتنويره إذ يقول: “هي ليال معلومة للسامعين، موصوفة بأنها عشر، واستُغني عن تعريفها بتوصيفها بعشر، وإذ قد وصفت بهذا العدد تعين أنها عشر متتابعة، وعدل عن تعريفها مع أنها معروفة ليتوصل بترْك التعريف إلى تنوينها المفيد للتعظيم”.
وليس في ليالي السَّنة عشرُ ليال متتابعة عظيمة مثل عشر ذي الحجّة التي هي وقتُ مناسك الحج؛ ففيها يكون الإِحرام، ودخول مكة، وأعمال الطواف، وفي ثامنتها ليلة التروية، وتاسعتها ليلة عرفة، وعاشرتها ليلة النحر. فتعين أنها الليالي المرادة بـ: ليالٍ عشر “.
فهي أيام نفحات وتجليات ورحمات، يتفضل بها القوي –سبحانه- على عباده الضعفاء؛ فيجبر تقصيرهم ويتجاوز عن سيئاتهم ويغفر ذنوبهم؛ فمن أصابته نفحة من هذه النفحات فلن يشقى بعدها أبدا.
وقد اختلف السادة العلماء في فضل هذه العشر والعشر الأخيرة من شهر رمضان، فقال بعضهم: “هذه العشر أفضل لهذا الحديث”. وقال بعضهم: “عشر رمضان أفضل للصوم وليلة القدر”، ورجح بعضهم أن “أيام هذه العشر أفضل ليوم عرفة، وليالي عشر رمضان أفضل لليلة القدر؛ لأن يوم عرفة أفضل أيام السنة، وليلة القدر أفضل ليالي السنة؛ ولذا قال: (ما من أيام) ولم يقل: (من ليال).
ويوضح الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- معالم فضل هذه الليالي في الحديث الذي رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس إذ يقول: “ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله -عز وجل- من هذه الأيام -يعني أيام العشر-، قال: قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء”.
وهذا الحديث النبوي الشريف يحوي بعض الإضاءات التي تزيد هذه الأيام إشراقا ونورا:
أولا– قال صاحب فتح الباري معلقا على فضل هذه الأيام: “والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيها؛ وهي: الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره“.
ثانيا– قال -صلى الله عليه وسلم-: “العمل الصالح” ولم يقل: “العبادة” أو “الطاعة”؛ وهو ما يوسع دائرة الفضل لتشمل كل عمل صالح سواء على مستوى الفرد أو الأمة كلها.
ثالثا– قال بعض العلماء: لعل تفضيل الله -عز وجل- للعمل الصالح في هذه الأيام عن الجهاد راجع إلى أن الجهاد في هذه الأيام ربما يمنع من فريضة الحج؛ فكان العمل الصالح أفضل فيها عن غيرها، وكان الجهاد في غيرها أفضل منه فيها.
رابعا– تكتسب هذه الأيام فضلها مما يقع فيها من المغفرة والعتق من النار؛ فمن وفقه الله لحج بيته الحرام رجع كيوم ولدته أمه، ومن لم يحج وصام يوم عرفة غفر الله له السنة التي قبله والسنة التي بعده؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: “صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ”.
من فضائل الأعمال
يكتسب العمل في هذه الأيام فضله من عظم الزمان الذي يقع فيه؛ فهذه الأيام فرصة عظيمة لمن كان له قلب حي، وعقل ذكي؛ فعمل أحب إلى الله من الجهاد حري بالحفاظ عليه والاستزادة منه؛ فأجر الجهاد بما يحويه من تضحية بالنفس والمال لا يعادله أجر؛ دليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه: “قيل: يا رسول الله ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: لا تستطيعونه، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: “لا تستطيعونه”، ثم قال: “مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله” (رواه البخاري ومسلم واللفظ له).
ورغم ذلك جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأعمال الصالحة في هذه الأيام أحب إلى الله مما سواها، حتى الجهاد في سبيله تعالى، وأي جائزة وأي فضل أن يصادف العبد عملا يحبه الله تعالى؟.
فمحبة الله مطلوب كل عاقل ومبتغى كل مريد، ومن أراد تحقيق ذلك فأمامه الفرصة؛ فليحسن الاستعداد لها والتهيؤ لاستقبالها، وهاك بعض الزاد في طريق المسير لعلك أخي الداعية تجد فيها نصيحة مفيدة فينفعني الله بها وإياك:
– التعريف بفضل هذه الأيام: من الأسباب الدافعة للتعب على الشيء والصبر على مشاقه معرفة فضله؛ فمن عرف فضل هذه الأيام وفضل الأعمال الصالحة فيها نشطت نفسه، وقويت عزيمته، وزادت همته لتحصيل هذا الفضل.
– حسن الاستقبال: من كان في انتظار ضيف عزيز فإنه يحرص على استقباله بما يليق به، ومحبة الله عز وجل هي أفضل ضيف يستحق أن يُتأهب له؛ فمن كان حريصا على محبة ربه -المتمثلة في الأعمال الصالحة في هذه الأيام- فليلبس لها لباس التقوى، ويطهر نيته من شوائب الرياء، ويقلع عن أوضار الذنوب والمعاصي.
– الحث على العمل الصالح بمفهومه العام: كل عمل يوصف بأنه صالح فهو مستحب في هذه الأيام، وتتنوع الأعمال الصالحة ما بين العبادات بأنواعها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم الصالح، والإتقان في العمل، وحماية الثغور… فكل صاحب عمل أو حرفة صالحة ينال هذا الأجر إن أخلص نيته لله تعالى في هذه الأيام.
– الحض على الإكثار من العبادات: إذا كنا قد أشرنا للعبادات في سياق الأعمال الصالحة فمن المهم أيضا أن نفرد لها حديثا خاصا لأهميتها؛ فالأعمال الصالحة تتفاضل فيما بينها، ومن أفضلها عبادة الله عز وجل والإكثار من الطاعة في هذه الأيام؛ فقد روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: “ما من أيام أحب إلى الله أن يُتعبد له فيها من عشر ذي الحجة”. ومن أنوع هذه العبادات:
– التشجيع على الحج والعمرة: وهي من أفضل الأعمال في هذه الأيام لمن كتب الله له الاستطاعة؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: “العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة” (صحيح البخاري). فالذي يوفقه الله للحج يجمع بين شرفي المكان والزمان؛ فيوم عرفة أفضل الأيام، وجبل عرفة أفضل الأماكن.
– التذكير بأهمية الصيام والقيام: تأتي هذه الأيام العشر بعد انقضاء شهر رمضان بشهرين، ربما تركن فيهما النفس للدعة والرفاهية؛ فيريد الله عز وجل أن تظل النفس مستمرة على العهد، وعلى ما يلجم شهواتها، ويضبط ملذاتها، ولا يكون ذلك إلا بالصيام والقيام؛ فيستحب الصيام والقيام في هذه الأيام؛ فتتمة حديث أبي هريرة الذي ذكرناه آنفا: “… يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر” (سنن الترمذي).
وإذا كان الصيام مستحبا في هذه الأيام فإنه في يوم عرفة أكثر استحبابا لغير الحاج؛ كما ذكرنا في الحديث آنفا قوله –صلى الله عليه وسلم-: “صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ”.
– إحياء سنة الذكر والتهليل والتكبير: من العبادات المستحبة واليسيرة على كل مسلم ذكر الله تعالى وترطيب اللسان به دائما؛ لأن هذا الترطيب دليل حياة اللسان والإنسان، ويزداد فضل الذكر والتهليل في هذه الأيام العشرة؛ مصداقا لقول الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}؛ فقد فسر العلماء هذه الأيام بالعشرة الأولى من ذي الحجة، وقد روى ابن عمر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر؛ فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد” (مسند أحمد).
– الإكثار من الدعاء يوم عرفة: يوم عرفة من أعظم الأيام عند الله عز وجل؛ فهو يوم الرحمة والعتق من النار؛ فقد روي عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ”ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء”.
فعلى كل لبيب أن يكثر من الدعاء والتضرع لله في هذا اليوم ليلحق بركب العتقاء، محققا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له” (موطأ مالك).
كانت هذه بعض القطوف الدانية لكل مريد من حدائق عشرة ذي الحجة؛ فمن أراد أن يقطف من ثمارها اليانعة فليعلم أن لكل سلعة ثمنا ولكل راحة تعبا ولكل زهرة شوكا، فمن دفع الثمن وصبر على التعب وتغلب على الشوك.. اشترى السلعة ونال الراحة وقطف الزهرة.