قسَّم علماء السُّنَّة الأحاديث باعتبار عدد طُرُق نقلها ورواتها في كل طبقة من طبقات السند إلى قسمين(1):
القسم الأول: المتواتر وهو ما رواه جماعة يستحيل في العادة أن يتواطؤوا على الكذب، وعدد الرجال الرواة في كل طبقة أكثر من أربعة.
القسم الثاني: الآحاد وهو ما لم يكن متواترًا، ولم يجمع شروط المتواتر وهو ثلاثة أصناف:
الأول: الحديث المشهور وهو ما رواه ثلاثة رواة في كل طبقة من طبقات السند.
الثاني الحديث العزيز: وهو ما لا يقل عدد رواته عن اثنين في جميع طبقات السند.
الثالث الحديث الغريب: وهو ما رواه راو واحد ولو في طبقة واحدة من طبقات السند، والمعروف عندهم أن المتواتر يفيد اليقين من حيث ثبوت الخبر المروي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الآحاد، فالمشهور عند علماء السُّنَّة أنه يفيد الظن، وقد ذهب بعضهم إلى أنه يفيد العلم إذا سلم من العلل والقوادح، وكذلك من المعروف عند أهل العلم أن الحديث المتواتر قليل في نفسه، وقليل باعتبار الحديث الآحاد والتنظير بينهما، هذه بديهيات معروفة في علوم الحديث، وما كان لمنكري السُّنَّة أن يغفلوا عن هذه البديهيات، أو يقفوا منها موقف علماء الأمة ويبقونها في نطاق دلالاتها بل سارعوا إليها ليتخذوها سلاحاً يشهرونه في وجه السُّنَّة أو معولاً يهدمون به أصولها وفروعها، فادعوا أن الأحاديث المتواترة لا تزيد على سبعة عشر حديثاً ويبالغ بعض منهم فيدَّعي أن المتواتر منها حديث واحد، هو: “مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ”، أما ما عداه من أحاديث فهي كلها أحاديث آحاد، ويرتبون على هذا أن السُّنَّة لا تصلح أن تكون مصدراً للتشريع، لعدم الثقة فيها، وضعف سندها(2).
بيان بطلان هذه الشبهة ونقضها
هذه الشبهة لا علاقة لها من بعيد أو من قريب بصحة مصدرية السُّنَّة للتشريع، وهذه مغالطة من مغالطات منكري السُّنَّة ونوضح ذلك في الخطوات التالية، بادئين بمغالطتهم في الحديث المتواتر:
أولاً: ليس المتواتر قليلاً إلى الحد الذي ذكره هؤلاء (سبعة عشر حديثاً، أو حديث واحد) فهذا جهل منهم بحقيقة التواتر الاصطلاحي، أو عناد ومكابرة، وذلك لأن علماء الحديث قسموا الحديث المتواتر قسمين:
الأول: الحديث المتواتر اللفظي، وهو الحديث الواحد الذي يرويه جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، يرويه ذلك الجمع بلفظه ومعناه كحديث رفع اليدين في الصلاة، وحديث المسح على الخفين.
الثاني: الحديث المتواتر تواتراً معنوياً لا لفظياً، كحديث رفع اليدين في الدعاء، فقد روى فيه نحو مائة حديث في هذا المعنى، ألفاظها مختلفة، ولكن معناها واحد، وقد وضع العلماء مصنفات في المتواتر اللفظي، بلغت عند بعضهم مائة وعشرة أحاديث، وزاد بعضهم على هذا العدد(3).
فإذا انضم إلى هذا العدد المتواتر المعنوي ظفرنا بِكَمٍ هائل من الأحاديث المتواترة، على أن بعض العلماء يجعل من أمارات التواتر تلقي الأمة للحديث بالرضا والقبول، وبهذا نُدخِل في المتواتر جميع ما رواه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما لأن إجماع الأمة على قبولهما قائم منذ وضعا وإلى يومنا هذا.
إن غير المتواتر من الحديث يفيد ما يفيده المتواتر بمعونة القرائن المناصرة له، كرواية الثقة، فإنها تبعث في النفس الاطمئنان، وموافقة الحديث لثوابت الإسلام وقيمه ومبادئه، والظن الذي يتكئ منكرو السُّنَّة عليه في إنكارهم لها اعتمده القرآن الكريم أساساً في تقرير الأحكام الشرعية كما في قوله تعالى: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) (البقرة: 230).
ومن رحمة الله تعالى بنا ابتناء الكثير من أحكام التكليف على الظن؛ لأن الظن هو إدراك الطرف الراجح دائماً، وقد يكون الظن قوياً، والله لم يجعل علينا في الدين من حرج، ولو كلفنا بالتحري الشديد في كل شيء لوقعنا في ضيق وحرج من أمرنا، والفقه الاجتهادي كله ناشئ عن الاحتمال الدالي وهو الظن، ومعلوم أن الفقه الاجتهادي في الإسلام أضعاف أضعاف الفقه القطعي الدلالة، والفقه الاجتهادي قائم على غلبة الظن، أما الفقه القطعي فهو قائم على العلم أو اليقين، وليس كل الظن مذموماً، والقرآن الكريم أورد الظن موارد اليقين، ومن ذلك قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة: 45-46)، فقد مدح الله تعالى الخاشعين وعبر عن إيمانهم اليقيني بلقاء الله والرجوع إليه بالظن، وقوله تعالى: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 249)، وعبر عن إيمان هؤلاء الراسخين في العلم والإيمان بالظن فقال تعالى: “يَظُنُّونَ” ولم يقل: يؤمنون، أو يعتقدون، للدلالة على أن الظن قد يكون قوياً فيُعمل به ولا حرج، كما بيَّن القرآن الكريم حال من يأخذ كتابه يوم القيامة بيمينه، وأن من أسباب فوزه في الآخرة وابتهاجه أنه كان يظن في الحياة الدنيا أنه سيبعث بعد موته، ويقف أمام الله عز وجل فيوفيه أجره، قال تعالى: (إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ) (الحاقة: 20)، فليس الظن كله مذموماً، أو مردوداً، ولكن المذموم منه هو الظن السيئ كما قال تعالى: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات: 12)، وهذا معناه أن بعضه حق وصواب، وهو المقصود عند علماء الحديث هنا والظن الذي تفيده بعض الأحاديث والسنن هو الظن الممدوح الذي يكفي حصوله في امتثال الأمر، واجتناب النهي، وعلى ذلك تنزلت آلاف الأحكام الفقهية في التشريع الإسلامي، ومما يؤيد وجود المتواتر بكثرة في كتب الحديث، أن الكتب المشهورة، والمقطوع بصحتها عند أهل الحديث، إذا اجتمعت على إخراج حديث، وتعددت طرقه تعدداً تحيل العادة تواطؤهم على الكذب أفاد ذلك صحة هذا الحديث وصحة تواتره عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن من العلماء من جزم بوجود المتواتر بكثرة، كالحافظ جلال الدين السيوطي الذي ألف كتاباً أسماه “الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة” ثم لخصه في كتاب سماه “قطف الأزهار”، وأورد فيه أحاديث كثيرة متواترة.
وقال ابن تيمية، رحمه الله: “وعلماء الحديث يتواتر عندهم ما لا يتواتر عند غيرهم، لكونهم سمعوا ما لم يسمع غيرهم، وعلموا من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعلم غيرهم، ويقول أيضاً: “وخبر الواحد المُتَلقَّى بالقبول يوجب العلم عند جمهور العلماء من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وهو قول أكثر أصحاب الأشعري كالإسفراييني وابن فورك؛ فإنه وإن كان في نفسه لا يفيد إلا الظن، لكن لما اقترن به إجماع أهل العلم بالحديث على تلقيه بالتصديق، كان بمنزلة إجماع أهل العلم بالفقه على حكم مستندين في ذلك إلى ظاهر أو قياس أو خبر واحد، فإن ذلك الحكم يصير قطعياً عند الجمهور، وإن كان بدون الإجماع ليس بقطعي، وكذلك أهل العلم بالحديث لا يجمعون على التصديق بكذب، ولا التكذيب بصدق، وتارة يكون علم أحدهم لقرائن تَحْتَفِ بالأخبار توجب لهم العلم، ومن عَلِمَ ما علموه حصل له من العلم ما حصل لهم(4)، فكثير من الأحاديث حكم العلماء بتواترها، وكثير من الأحاديث أيقنوا بصحتها، وهذه الكثرة كثيرة جداً شاملة لكل أحاديث أبواب الإسلام، فماذا يبقى بعد ذلك لمنكري السُّنَّة من تمسك بهذه الشبهة الواهية؟
_____________________________________
(1) شرح صحيح مسلم، المؤلف: أبو الأشبال حسن الزهيري، (103/17).
(2) الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة، المؤلف: د. عبدالعظيم المطعني، (113/1).
(3) للمزيد انظر: كتاب “نظم المتناثر من الحديث المتواتر”، المؤلف: محمد بن جعفر الكتاني أبو عبد الله، مقدمة الكتاب.
(4) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (18/ 41).